العقل والفكر بين المطرقة والسندان‎

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

لماذا لا يستفيد الكبير من الصغير، والعالم من الجاهل والعكس صحيح، لماذا لا نفتح قنوات الحوار والنقاش مع من نعتقد بأنهم أقل منا علما وفهما وإدراكا، لماذا دائما نصادر الفكر ونختطف العقل، فالآراء عندما تعرض وتمحص، يذهب زبدها جفاء ويبقى ما ينفع الناس ثابتا راسخا، فحجم النجاح يحدده حجم العقبات التي واجهتك للوصول إلى القمة.‏ وكل إنسان يرى الحياة بمنظوره الخاص، وعدم قدرتنا على استيعاب آراء الآخرين لا يعني أننا على صواب كما لا يعني أنّهم على خطأ، الحياة مليئة بالألوان لكن الإنسان وحده من لا يرى أحيانا إلاّ الأبيض أو الأسود.

جاء في الأثر: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"[إغاثة الللهفان،2/265. الملل والنحل للشهرستاني، 2/144. التذكرة الحمدونية، 1/256. لباب الآداب، ص237]. "إن من يعتقد أن الكتاب والسنة عائق للتطور أو التقدم فهو لم يقرأ القرآن أو لم يفهم القرآن"[ الملك سلمان بن عبد العزيز]، قيل لنابليون يوما : إن جبال الألب الشاهقة تمنعك من التقدم فقال : يجب أن تزول من الأرض"[نابليون بونابرت].

 

كل من لاقيت يشكو دهره

 

ليت شعري هذه الدنيا لمن

 

نقعد يشكو بعضنا لبعضنا

 

وما مفاد من شكا ومن بكى

 

أنشرب الماء القراح وما بنا

 

من مضض وليس بالحلق شجا

 

ونهنأ العيش على اكدراه

 

وتطعم الأجفان لذات الكرى

 

   تلك الأيدي التي تدفعه إلى الحقيقة والواقع ولسان الجميع يقول بصوت واحد: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت..."، في الحقيقة.. قامت تتراقص.. بين يدي حبيبات لوحة المفاتيح.. مستلهمة ذلك من أقوال صاحب الجلالة حفظه الله ورعاه: "إن مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد، هذه من أكبر الكبائر، ونحن لا نسمح لاحد أن يصادر الفكر أبدا، وأنا لا اريد أن أخوض في التفاصيل، ولكن اعلم أن هناك من يدعو الى مصادرة الفكر، إن الفكر لا يصادر وديننا الحنيف جاء من أجل العقل، والفكر ولم يأت لمصادرة الفكر أبدا في أي وقت من الأوقات، نحن ديننا فيه سماحة فيه أخلاق وانفتاح والقرآن المجيد كل آياته تدعو إلى التفكر والتدبر وإلى آخره.. وما تدعو الى الجمود وعدم التدبر وفقط، أنه يمشي في القافلة وهو مغمض عينيه لا أبدا" وقوله حفظه الله في تطوير التعليم "إنَّنا نولي التعليم جلَّ اهتمامنا، ونسعى لتطويره وتحسينه ورفع مستواه، وتحديث المعارف وتعميقها وإثرائها وتكييفها مع عالم دائم التغيير".

  متى نفسح للنور أن يشق طريقه نحو الأفق، متى ينبلج الصبح وتطلع الشمس الساطعة لتملأ الأرجاء بهاء وصفاء وحللا سندسية ورافة، متى ينبلج الصباح ونقول للظلام وداعا، فالنجوم أفلت برمتها تباعا سراعا، وبقي العقل مختطفا وسط ديجور الدجى، فقد مج الدجى، وينتظر انبلاج الصبح ولكن لا يرى إلا ليلا حالكا اكتنفه الجواء وأسبله الظلام والودق، واشتملته أطياف مسبلة حتى الموبق، وتشعبت منه شجون الحيف والأسى، وبدأ الضيم يكتنفه، وقد عبثت به أمواج الأوصياء على العالم متى يرفع الضيم عن العقل وتدفع أمواج التخلف والجمود. "إن أمة تلازمها الهواجس ويستبد بها القلق على مصيرها لا يمكنها أن تقدم نتاجا فكريا ذا قيمة "[أدولف هتلر]، ف"ليس التقدم بتحسين ما كان.. بل بالسير نحو ما سيكون" [جبران خليل جبران]. كما أنه "من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل"[عبدالرحمن الكواكبي].

   لماذا نهرب من حمم الفكر، ونجري خلف ديجور الدجى، ويحك ما الذي جرى لماذا هذا الوطم ولماذا نصطلي نار الجمود لكن ما بال الورى لا يفقهون' فقلت مكفكفا عبراتي لن ينفعني دواء ولا طبيب:

 

قصدت إلى الطبيب مداويا قال

 

: إنك يأخي حقا عليلٌ

 

فقلت أجل ولكن ما سقامي

 

فقال لعله مضضٌ ذبولٌ

 

فقلت بل السقام سقام روح

 

به فنيت وليس له عديل

 

ألا يا طبيب الجن ويحك داوني

 

فإن طبيب الإنس أعياه دائيا

 

 فتراءت في ذاكرتي صورا أعرفها وأمجها كل المج، وذرفت الدموع على وجنتي، وطما عليها الفنن، وبدأت أغوص في يم الشجن، فقلت لنفسي هل أنا بين جداول الكرب، أو في حر لهيب، أو بين حبور قد أحاط بي إحاطة السوار بالمعصم ثم ذهب. الآن فقط عرفت لماذا لا نمتطي صهوات المجد، ونصافح الثريا، ولما لا نتطور في عالم الانفجار المعرفي والتكنولوجيا المتسارعة. فأين المفر من هذه الأرماس والأطمار البالية، والأتراس الحصينة، وقد سجيت الأفق، وألقت بالعقل في غياهب الجب، وألبسته لواعج الأحزان وطمرته في كوامن الأشجان، وجعلته مسرحا للأسى والإحباط لكن "إذا تشابهت أفكار الناس فلا أحد يفكر " وكما أنه من الصعب هزيمة شخص.. لم يهزمه اليأس من داخله.

 

إِذا كَشَفَ الزَمانُ لَكَ القِناعا

 

وَمَدَّ إِلَيكَ صَرفُ الدَهرِ باعا

 

فَلا تَخشَ المَنيَّةَ وَاألقَيَنه    

 

وَدافِع ما اِستَطَعتَ لَها دِفاعا

 

ولا تَختَر فِراشاً مِن حَريرِ

 

ولا تَبكِ المَنازِلَ وَالبِقاعا

 

وَحَولَكَ نِسوَةٌ يَندُبنَ حُزنا

 

وَيَهتِكنَ البَراقِعَ وَاللِفاعا

 

واللهُ قد أعطى الورى عُقُولا

 

ما كُلُّ منقُولٍ غدا مقْبوُلا

 

فبالعُقـُول تُدرِكُ المعانِي

 

ومالهُ أراد من يُعاني

 

التعليم يراد منه إعداد المتعلمين للمستقبل لا لماضي، وللتجديد لا التكرير، والجمود والتخلف. وهذا المفهوم للأسف غاب عن الكثير.

 

تلك ربوع الحي في سفح النقا

تلوح كالأطلال من جد البلى

 

 

 

  • دكتوراة قانون، باحث ماجستير التربية تخصص تكنولوجيا التعليم

 

تعليق عبر الفيس بوك