راحلون إلى ملكوت السماء

مسعود الحمداني

الإهداء:

إلى أرواح من رحلوا عنّا مبكرا (خالي محمد بن سالم الفزاري، والغالي منصور بن سليمان الكيومي.. عليهما رحمة الله وغفرانه).

سقطتْ ورقة أخرى من الدنيا، غابتْ خلف زمنٍ لا يُرى، ضبابيةٌ هي الحياة، ومخاتلة كصديق لا يعرف الرحمة، تتجه كل الغيمات نحو سديم الأبدية، ترسل شواظًا من حِمم البراكين المختبئة خلف الرماد، تشتعل بنا اللحظات، وتومض في شعاعِ شمسٍ لا يكاد يختفي، نحن الباقون على أرض الموت، نسحب رداء الكلمات، ونحلّق في سماوات الروح، نشعل شجرة الزيتون، ونطعمها للوقت الرابض خلف الأجفان.

راحلون إلى اللانهايات، نهرول نحو العبث، ونسند ظهورنا على أريكة الغبار، نشرد بخيالاتنا لنجلب صورا بهتت في أعيننا، واختفت من ذاكرتنا، جلبتها لحظات الحزن الأخيرة، وروتها بماء القلب حتى نشف ماؤه، ورقة تتبع ورقة، وريقات ذابلات حد الهلاك، نشرب زجاجاتها الخاوية إلا من الألم، ونركلها إلى حيث لا نراها.. لعل في الأفق نارا أخرى.

في كل مرة يطرق الموت أبوابنا نرفض أن نفتح له، غير أنه يدخل من الشبّاك كلصٍّ يتحيّن فرصة الولوج، مخيفٌ هذا الشبح الهلامي، يفتح فاه ليبتلعنا، يروِّض وحوش ذواتنا، ويرقص كمجنون على فراش مرضنا، غريبٌ ومشاكسٌ ومخادع، يهرب من أمامنا فنتبعه كي نوقع به، فنقع في حباله المشدودة كقوسٍ غليظ.. هكذا نحاول أن نتبع موتنا إلى حفرتهم الأخيرة، فإذا بنا نقع في الفخ الذي نصبه دون أن ندري.

لم يبقَ في هذا العالم سوى خطوتان لكي نصل، لم يبق غير السراب البعيد الذي يفصلنا عن أحبتنا، نحاول أن نسجد في تربة القبر فيسجننا الزمن، لا غداً نرتقبه، ولا يوماً نعيشه، ولا أمساً نتذاكره، اختفت الأيام، ولم يتبق في الأرض سوى حفنة تراب، وقبرٍ لا يكاد يشتهينا، نمسك الرمل بيدٍ، والكفنَ بيدٍ أخرى، نبترها من أغلالها التي طوّقت غرف المستشفيات الكئيبة، نسترق السمع، فلا نسمع إلا الصمت يلفنا من العظم حتى العظم.

بالأمس كانوا هنا، يشاكسون الغيم، ويخترقون جدار القلب، ويعبثون بالوقت، كانوا نورانيّين حد العتمة، معتمين حد النور، يسامرون النجم حتى يغفو، ويركبون الحكايات حتى تزهر، كانت ضحكاتهم تزلزل المكان، وتُغرق العين بدمعها، حكاياتٌ شاردةٌ كأذهان رطبة موغلة في الروح، تجثو على ركبة الزمن المارق من ظلمته، لم يكونوا سوى عطر يسافر في منازل الذاكرة فينعشها من جديد.

لن نراهم، لقد رحلوا، ولم نعد نرقب دخولهم علينا ذات فجر يسحبون رداء الحياة، غير أن القلب ما زال رطبا بحكاياتهم، وجلساتهم، ومساكن غربتهم، ما زالوا هنا.. أو هناك. .يستندون إلى جدار السماء، ينزفون رواياتهم، ويشربون قهوة حبهم، ويتنفسون في كل زوايا المكان، لا تزال روائح عطرهم تهمس لمن حولهم: "نحبكم، ولكنه الرحيل..". تنسلُّ الكلمات من أفواه الشوق كزعفران، وتسافر في ملكوت الربّ هنالك حيث العصافير تطلق أغنيتها الأثيرة لمن قدموا إلى شجرتها المعلّقة بين السماء والأرض.. ويختفي كل شيء خلف التراب والعتمة.

"ومن التراب وإلى التراب نعود"...!

Samawa2004@live.com