الحرية.. بين التفكير والتعبير

 

عبد الله العليان
لم تلق في مسار الحياة الإنسانية، قضية واجهت القبول والاختلاف كما هي مطالب قضية الحرية؛ سواء في مفاهيمها وحدودها، وتشعب تعريفاتها، وستبقى كذلك، ما دام الحياة واختلافها في الأفكار والنوازع والتوجهات، والحرية منذ القدم تغنى بها الشعراء، وتمسّك بها الفلاسفة والمفكرون، لكونها مرتبطة بالفطرة الإنسانية التي تتّوق للحرية بمجالاتها الواسعة، وتعشق مدلولها، بما يعطي إنسانية الإنسان معنًى للوجود للانطلاق والتألق والإبداع.
لكنّ الإشكالية أنّ قضية الحرية تعرجاتها كثيرة، من حيث الرؤى والمنطلقات والأيديولوجيات، فتفسير الحرية عند دعاة الاشتراكية، هي حرية أن تمتلك حقك في العيش مع أسرتك مع امتلاك الدولة لكل وسائل الإنتاج،  مع التضييق على الحرية الشخصية، والليبرالية التي خرجت من الرأسمالية المتوحشة، تقول بحرية التجارة والتملك وكل أوجه النشاط، دون ضوابط ـ وإن كان الأمر قد تعدل في الغرب الرأسمالي مع المجال الواسع للحرية الشخصية ـ لكن الأساس الذي تبنى عليه الحرية أي حرية، هي حرية التفكير، وهذه الحرية مرتبطة بالوجود الإنساني كما أشرنا آنفا، ثم يأتي بعدها، ما يسفر عنه هذا التفكير، وهو حرية التعبير، الذي يعد المحور الذي تتحرك فيه انعطافات الحرية في طرح الأفكار والرؤى والنقد وما بعد النقد.
وقد طرحت منذ عدة أسابيع، في وسائل التواصل الاجتماعي وما تزال، نقاشات وحوارات في مسألة الحرية وحدودها، ودار النقاش في محاور عدة كطبيعة الحوارات وهي بلا شك إيجابية وضرورية، لعل أهمها قضية ما ينبغي أن تكون عليه الحرية الشخصية، وما هي الأساس الذي تكون عليه هذه الحرية في التعبير؟ فالبعض يرى أن الحرية، كما كانت لصيقة بالفطرة الإنسانية، فهي ملك لصاحبها، ما دام أنه اختار لحياته أن تكون وفق قناعاته، وهذه حق من حقوقه لا ينازعه أحد، والبعض يختلف في طريقة هذا الاختيار، يرون أنه وإن كان هذا حقاً لصاحبه، فلا يعني أن هذه الحرية مجردة من الضوابط، هناك أعراف وقوانين، قد تحد من الحرية الشخصية  في القول والفعل، ولعل المقولة الشهيرة التي نعرفها جميعاً "حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين" هي أهم الضوابط، لكن تقييد الحرية أو وضع ضوابط، ليس حقاً لأحد من الناس يضعه ويقرره بصورة شخصية، يقرره دون أن يكون هذا قانوناً قد وضع وحُدد ضوابط هذا التقييد، فهذا الحق ممنوح للدولة ونظامها العام، وهذه مسألة يجب أن تحدد تحديداً واضحاً حتى لا يسوء الفهم، وحتى لا تقع الكثير من الالتباسات والتوترات في مسألة التعبير. نعم الحرية أعظم مكاسب إنسانية الإنسان منذ أن خلقت البشرية، كما أنّ الحرية أسهمت لبني الإنسان طريقاً من خلال حرية التفكير أن يحقق علماً، ونهضة، وتقدماً في كل مجالات الحياة، لكن الإنسان، في ظل نسبية قدراته في التفكير والمعارف لابد له من إعادة التفكير كطبيعة بشرية، ويوازن بين اندفاعات الحرية، وضوابط القيم التي تقرنها القوانين، فهما الجناحان اللذان تطير بهما  فضاءات الحرية، لكن حرية التعبير تعد أحد الحقوق التي ينبغي ألا تحدها الحدود، إلا في حالة الاعتداء على حرية الآخرين أو مخالفة القوانين السارية.
إذن حق الحرية حق مكتسب، وتتفق عليه كل الأديان والفلسفات، لكن هذه الحرية، بحسب د. صبحي صالح، تبقى بها بعض القيود "سواء كانت قيودا حضارية أم قيودا استثنائية، فربما كان الإنسان البدائي يتمتع ظاهراً بنصيب من الحرية أوسع من نصيب الإنسان المتحضر الراقي، بل لعلّ حرية الأفراد تقاس بمدى قدرتهم على الاختيار الأصيل، ولعل المجتمعات تزداد فيها الحريات كلما ازدادت القيود والالتزامات والتبعات؛ ومادام الإنسان مخلوقاً في كبد ليظل يكابد ويناضل تحقيقاً لإرادته وحريته". وهذا السعي مسألة تتطلبها الحياة على الوجهة السليمة والسلمية، وحركة الحياة، أو ما تسمى في القرآن الكريم "التدافع"، وهذه تحتاج إلى الرؤى الإيجابية، في قضايا الحريات، والمطالب بها، والحركية للسعي، حاجة طبيعية ونفسية، وحرق المراحل، قفز في المجهول، وايجابياته ضئيلة ومحدودة.
من هنا يجب السعي العقلاني لفتح آفاق الحرية، التي تتطلب حركة الحياة، فحرية التعبير من المطالب المهمة، وهذه المطالب حاجة ماسة للتغيير لما هو أفضل لبناء المجتمعات، على أسس قوية بعيدة عما يعيقها من سلبيات، ومن الاستغلال، ومن الفساد، ومن هنا يتحقق النهوض المنشود.

 

تعليق عبر الفيس بوك