دور الاقتصاد في نجاح الدول..مهاتير محمد نموذجا

 

جمال النوفلي

 

في العاشر من يوليو من عام 1925م وفي مدينة بعيدة في ماليزيا تدعى ألورستار ولد مهاتير محمد من أب له أصول هنديّة كان يعمل كمدير مدرسة في إحدى المدارس الإنجليزية هناك وأم ملاوية أي من الشعب الملاوي الذي يشكل أغلبية كبيرة في الشعب الماليزي بجنب الصينيين، عاش مهاتير في كنف والديه وتعلم في مدرسة إنجليزية نظرًا لبروزه العلمي وتفوقه على أقرانه حتى تخرج منها ورحل ليلتحق بكلية الملك إدوار في سنغافورة لدراسة علوم الطب. ولا بد أن أشير هنا إلى أنّ مهاتير لم يتمكن من مواصلة دراسته مباشرة بعد تخرجه من الثانوية بسبب الحاجة والفقر واندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال اليابان لدول الملايو مما اضطره إلى العمل كبائع في الطرقات للقهوة والموز المقلي.. تخرج مهاتير من كليّة الطب عام 1955 وعاد إلى ماليزيا ليمارس مهنته ويتزوج من إحدى زميلاته في كلية الطب تدعى سيتي حسمه. كان مهاتير منذ فترات دراسته شابا مثابرا وناشطا في المجالات الاجتماعية والسياسية لهذا لم تمنعه مهنته كطبيب من الالتحاق كعضو نشط في الأحزاب السياسية؛ الأمر الذي أهله لينتخب رئيسا للحزب في عام 1959، ثم استمر من منصبه هذا في مناوشة رئيس الوزراء تونكو عبدالرحمن وحكومته وانتقادها على سياستها التي كان يرى أنّها منفتحة على العولمة الغربية ولا تسعى إلى تحقيق أي عدالة اجتماعية كما انتقد سياسة الإبقاء على القوات البريطانية في ماليزيا، تلك الانتقادات اللاذعة التي جعلته في موقف مشحون أمام رئيس الوزراء ذاك الذي تسبب في خسرانه لرئاسة الحزب، لكن ذلك لم يدم طويلا فقد عاد مهاتير كعضو برلماني بعد سنوات عدة مثلا لمدينته ألورستار، واستمر في انتقاداته حتى تم تغيير الحكومة، ألف مهاتير مجموعة من الكتب منها كتابهThe Malay Dilemma معضلة الملايو انتقد فيه السياسة وشعب الملايو الذي اعتبره كسولا وغير قادر على الإنتاجية كما انتقد سياسة الحكومة في التمييز بين الصينيين والملايو، الأمر الذي جعله يفقد مقعده في البرلمان مرة أخرى، إلا أن ذلك لم يزعزع همته وعزمه واستمر في نشاطه السياسي من خلال منظمة الملايو المتحدة الوطنية حتى عاد إلى رئاسة حزب المنظمة وتوليه لبعض المناصب في الحكومة بداية من وزير التعليم وحتى توليه رئاسة الوزراء عام 1981.

 

أراد مهاتير ومنذ توليه الرئاسة أن يطبق جميع الأفكار والخطط التي كان يدعو لها لولا أنه وجد أنّ كثيرًا من السلطات كانت حوزة السلاطين الماليزيين الذين لم يكن يهمهم إلا إرضاء الغربيين، لهذا شنّ حملة لتحديد سلطاتهم وإبقاء السلطات الأكبر في يد رئيس الوزراء ليتمكن من تطوير البلد بالطريقة والصورة التي يريدها، والتي كانت تتمحور حول الثلاثي (النمو، التحديث، التصنيع) حيث كان يركز على تنمية المجتمع والاستثمار في التكنولوجيا والتوجه نحو التصنيع لخلق نوع من الاكتفاء الداخلي من المنتجات، وقد كانت اليابان نموذجا جيدا للاقتداء به كدولة متقدمة صناعيا وتكنولوجيا، لهذا حارب مهاتير العولمة واتخذ الإجراءات والسياسات التي تشجع على استثمار الماليزيين ومدخراتهم في تمويل المشاريع والعمل بها، كما ركّز على جودة التعليم وتنميته للخروج بأفضل الكوادر الماليزية لقيادة وإدارة المشاريع، وقد تحققت له الأهداف التي سعى عليها منذ بداية حكمه وحتى تاريخ استقالته في عام 2003، فقد تحولت ماليزيا إلى دولة اقتصادية منافسة للدول المتقدمة في المجال الصناعي والتكنولوجي بعد أن كانت لا تعتمد إلا على مصدر زراعي واحد للدخل، إذ تساهم الصناعة والخدمات اليوم بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالي الصادرات.

واجه مهاتير العديد من التحديات خلال فترة حكمه منها الأزمة العرقية في ماليزيا بين الملاويين والصينيين، والأزمة الاقتصادية التي عصفت بآسيا وأطاحت بالعملة عام 1997، وبعض الأزمة السياسية التي بينه وبين نائبه أنور التي أدت إلى إقالة الأخير وزجه في السجن، ملقيا بذلك ظلالا من السمعة السيئة على فترة حكم مهاتير الناجحة، واجه الاقتصاد الماليزي خلال العشر سنوات الأخيرة هبوطا وانحدارا في الأداء وارتفاعا في نسبة العجز المالي، مما دعا مهاتير ليقود مظاهرات شعبية عامة ضد الفساد السياسي والإداري والدعوة إلى إقالة الحكومة وقد تحقق له ما يريد وتمّ انتخابه مرة أخرى في عام 2017 وهو بعمر 93 كرئيس وزراء وذلك من أجل تصحيح الأخطاء وإعادة الموازين إلى ما كانت عليه، لهذا كانت أول قراراته هي تطهير الدولة من الفساد والقبض على الرئيس السابق وجميع المسؤولين الفاسدين ومحاكمتهم ومصادرة الأموال المختلسة وتعديل نظام الاستثمار الأجنبي، وعلى الرغم من الرغبة الجادة من مهاتير في المحافظة على قوة الاقتصاد الماليزي إلا أنّه لم يتحسن قط بل انحدر إلى ما هو أسوأ من ذلك وما زال كثير من الخبراء يرى أنّ مهاتير ليس لديه ما يقدمه للماليزيين وأن جميع القرارات التي اتخذها جاءت بنتائج سلبية ومخيبة للآمال.

تعليق عبر الفيس بوك