آخر مكالمة

يوسف عوض العازمي

"أحسنوا لمن تحبون، فإنّ الشوق بعد الموت لا يُطاق"، محمود درويش.

مع أن الحقيقة الكبرى في الحياة هي الموت، ومع أنّه معروف أنّ لكل بداية نهاية، إلا أننا نتجاهل دائما "نسيا" أو "تناسيا" هذه الحقيقة، مع أنّها طريق لابد منه، وأنها وعد إلهي بالحياة ثم الموت ثم البعث في اليوم العظيم، لكن الكثيرين يغفلون عن ذلك، ويسيرون بحياتهم وكأنهم مخلدين!

حتى في العلاقات الإنسانية تجد نفسك منسجما" مع إنسان، ويكون جزءا من حياتك، أو عمل تنشغل به ويشغلك عن الجميع، أو غير ذلك من منشغلات الحياة، ثم في لحظة فارقة تجد أنك عانيت الفقد، وهو الفقد المفاجئ، وهو في أحيان كثيرة مفاجأة للألم.. للحزن، إلى أن تجد نفسك بلا مأوى إنساني (ليس ضروريا" أن يكون المأوى سكنا" تستظل به، بل قد يكون شعورا" يظللك)

غالبا" أعتقد أنّ الحياة والموت وجهان لعملة واحدة، وأنهما يشتركان في نفس عقيدة الخلق، وبدايته وأثنائه ونهايته، هي فلسفة خاصة جعلت مني إنسانا" يتعامل مع الوجودية والعدمية على نسق ثابت، حتى أصبحت لا أجزع من الفقد، ولا أتألم من الغياب، ولا أحزن على البعد!

قبل سنوات وفي يوم لن يتكرر، جمعتني مكالمة مع عزيز، وكانت مكالمة طويلة (ساعة إلا ربع تقريبا")، وكان الحديث محوره أمر نشترك الاهتمام به، ولاحظت أنه ليس جازما بإتمام الأمر، وكأنه يشعر بدنو الأجل، كان يتعذر بصعوبة تحقيق الأمر، سألته لماذا؟ بهدوء قال: أشعر بأنّ هذه آخر مكالمة تجمعنا، قلت: ما هذا التشاؤم، فأل الله ولا فألك، لقد تحسنت كثيرا" والأطباء أكدوا استقرار حالتك، وخرجت من المستشفى، قال يا يوسف المريض اعرف بنفسه، أنا مستعد للحظة الأخيرة، وأشعر أنها قريبة جدا"!

وفعلا" كانت اللحظة الأخيرة أسرع مما توقعت وكما توقع هو رحمه الله، كان الغياب في وقته الموعود، ورحل عن هذه الفانية مستعدا" حاضر الذهن، وكانت المكالمة الأخيرة، هي المكالمة الأخيرة، هي النفس الأخير في تواصلنا!

ذات مرة كتب الدكتور محمد المخزنجي: "الموت شيء مُرعب ليس في حد ذاته، ولكن بما يُتركه للأحياء من بقايا حياة الراحلين"، صدق المخزنجي لأنه فعلا "للأثر الحي بعد الممات ذكرى وتأثير صعب نسيانهما، بنفس الوقت أتصور أن للحياة وللموت فلسفة خاصة بهما، سمعت أن الإنسان يشعر بالدنو بشكل غير مباشر، يخالجه شعور بذلك، وبأنه أزف وقت الرحيل، وحانت ساعة الحقيقة، بنية اللحظة مشتته، غير متماسكة، تنتظر وعدا" بالاستمرار، أو إشارة للإحالة إلى العالم الآخر.

في كل الأحوال لا أعتقد أنّ الموت في حد ذاته فعل شر، أو أمر مجزع، أو حدث مؤلم، فهو الحقيقة المنتظرة لأي كائن، أو كمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، قد تكون مشاعر الموت في نفوس الأحياء المودعين لهذا المغادر، ستجد مشاعر الحزن فيمن يعاني الفقد بعد رحيل المغادر، ويكبر الحزن أو يصغر بحسب المكانة الإنسانية التي تركها المغادر.

اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، ولا توفنا إلا وأنت راض عنا..

قال تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ" (الرحمن آية 26).

 

 

تعليق عبر الفيس بوك