الجماهيرية الثانية في ليبيا

علي بن مسعود المعشني

ليبيا اليوم تُلملم جراحها لتعود رقمًا معتبرًا -إن لم يكن وازنًا وصعبًا- في السياسات الإقليمية والعربية والدولية؛ فالذين راهنوا على أنَّ القذافي هو ليبيا، وبإسقاطه تسقط ليبيا وثورة الفاتح، تيقنوا اليوم أن ليبيا هي القذافي، وأن ثورة الفاتح هي هُوية ليبيا الجامعة، وخزين ثوابت ليبيا والليبيين بتاريخهم ومكوناتهم وتطلعاتهم وكينونتهم، بل وقدرهم على هذه الأرض والذي لا انفكاك منه.

فمعمر القذافي وثورة الفاتح لم يكُونا طارئين على ليبيا، بل طارئان من أجل ليبيا؛ لهذا تشبها بليبيا إلى درجة الانصهار العضوي، هذا الانصهار الذي لمسه المتآمرون على ليبيا وعايشوه منذ بغيهم عليها عام 2011م، وعبثهم بخزين عصمتها ومناعتها، والتي يجهلونها، فتهاوت الجغرافيا، وتبعثر التاريخ أمامهم، وتعثرت خطاهم، وتاهت بهم الحلول والسُّبل في فهم ليبيا الدولة والإنسان والتاريخ والجغرافيا معًا.

لم يُدرك السُّفهاء المتآمرون على جماهيرية ليبيا القذافي أنها لقمة أكبر من أفواههم فحسب، بل تيقَّنوا أنها طَلسم يستعصي فهمه على عقولهم الموغلة في العفونة الفكرية ودولة عميقة تفوق قدراتهم التدميرية ومهاراتهم الشيطانية في الإخفاء والتضليل والطمس والتشويه.

هم لم يُدركوا أنَّ ثورة الفاتح شمس لا تغيب إلا بقدرة الله ومشيئته، والله بطبيعة الحال لا يُغيب الحق ولا يظلم أهله، وهم يستغفرون، لكنه يبتلِي عباده الصالحين ويختبر إيمانهم ويمتحنهم، واليوم يرد لهم جزاء صبرهم الحسن بعودة الجماهيرية القذافية العميقة، وليعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

لن يُدرك معنى مفرداتي هذه -بداخل ليبيا وخارجها- سوى الرَّاسخين في علم ثورة الفاتح ومعمر ورسالة ليبيا الجماهيرية، والتي يأتي منها الجديد ومنذ عهود الرومان والأغريق والفتوحات الاسلامية ولغاية اليوم وحتى مطلع الفجر؛ فمعمر القذافي ليس نبيًّا ولا رسولًا معصومًا، لكنه رجل صدق الله ورسوله وبعثه القدر ودفع به كجند من جنود الله الذين لا يحصيهم عد ولا حساب.

يُمكن للعابثين والطارئين أن يعبثوا بالجغرافيا في لحظات ظُلم تاريخي ما، وفجوة صراع ما بين الحق والباطل، والوعي واللاوعي، لكنهم يستحيل عليهم دخول التاريخ أو العبث بنواميسه إلى درجة الافقار والخواء والإجهال المنظم.

معمر القذافي وفرسان ثورة الفاتح قاتلوا من أجل الأرض؛ لهذا حالفهم النصر، وطوَّعوا الموت لأنَّ الأرض كانت تقاتل معهم وبهم. أما الطارئون على ليبيا، فقاتلوا الأرض فتيتموا مبكرًا، وانكشفت سوءاتهم ومساوئهم، وتكشفت نواياهم وعوراتهم كجحافل التائهين في الأرض ممن سبقوهم في البؤس والشقاء، واعتقدوا أنَّ المجد صناعة الأغرار والمتطفلين.

ستعود الجماهيرية الثانية بالسيف وبالحق الشرعي الذي لا يسقط بالناتو ولا بالتقادم، وبمقتضيات التاريخ ومفردات المنطق، وستسطع شمس الفاتح مُجدَّدًا لتكوي بحرارتها جميع المتظللين بظل طُغاة الأرض والمستكبرين الحقيقيين والناشئين في الطغيان والاستكبار من الزاحفين على بطونهم، بعد أن نزعت أثواب وبراقع لا حصر لها مِمَّن تستروا برداء الطهارة الثورة والوطنية الزائفة والغيرة المشبعة بجراثيم الحقد والثأر والتشفي والانتقام.

اليوم فقط تيقن الرعاة من أعراب زماننا أنَّ رعاة الربيع يسرحون ويمرحون في العقول والحقول وفق وفرة الكلأ من العملاء والخونة والثروات، وأنه لا فضل لديهم لأعرابي على أعرابي إلا بمنسوب الخيانات والذل والهوان، وأنَّ عملائهم لا عهد لهم ولا أمان إلا بتبديل جلودهم كلما نضجت، لتبقى طرية وصالحة للاستعمال في كل آن وحين؛ فعملاؤهم بحسبهم ليسوا أغرارًا في السياسة فحسب، بل وفي الخيانات كذلك.

ستعود الجماهيرية الثانية فوق أنقاض عار فبراير وأشلائهم، وفوق إرادة زيد وعمرو وسلامة؛ لأنها إرادة شعب أراد الحياة، وقرر الظفر بالشرف وتقديمه على مغريات العلف وسيستجيب القدر.

ستعود الجماهيرية الثانية شامخة عصية؛ لأنها من جند الله، ولأنها من نسيج قيم السلالات العربية النادرة والمنقرضة، والتي لابد لها أن تُبعث في زمن ما ولحظة تاريخية كضرورة من ضرورات الحياة وصيرورة التاريخ، وكما أحدثت ثورة الفاتح زلزالها حين تفجَّرت في الزمان والمكان المثاليين، فأجبرت الكبار على تسليمها مشعل الأمة وأمانتها في زمن وسنوات التحدي والكبرياء.

ستعود الجماهيرية الثانية بلا تشفي ولا مشانق ولا ثأرات، وكصفحة ثورة الفاتح 69 البيضاء الناصعة تمامًا، ليس لأنها جماهيرية نقية تتجاوز كل قبيح ومذموم ومستهجن فحسب، بل لأن خصومها وأعوانهم سيتبخرون كبخار الماء بعد أن عاشوا زمنًا تيقنوا فيه من وضاعة أفعالهم وحقارة سلوكهم وأفكارهم.

ما أكتبه ليس مقالَ رثاء أو مناشدة مجد سكبته البلادة التاريخية، ولا عرش خطفه السفهاء في لحظة غفوة تاريخية مغموسة بحبوب الهلوسة والهوس المخلوط بالتدين المزيف والتشفي الفاجر والانتقام المتشبع بالحقد البدائي، بل استشراف واع بضرورات التاريخ ومساره ومعادلات نتائج صراعات الحق والباطل.

وبالشكر تدوم النعم...،

------------------------

قبل اللقاء: يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال بعد رحلة فكرية مضنية في بحثه عن الله: "إذا كان الله غير موجود فإنَّ عليه أن يوجد"، ونحن نقول إنَّ عهد الجماهيرية يجب أن يعود ويوجد، خاصة بعد أن تجاوز الظالمون المدى، وشهد التاريخ والجغرافيا جسامة خواء العالم من القذافي وجماهيريته وقيم ثورة الفاتح؛ حيث استبسلت البغاث على النسور الجوارح في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفقد العرب المزيد من مناعتهم؛ فالجماهيرية اليوم هي الضرورة الحتمية لجملة كبيرة من الأسباب الموضوعية، والتي تنبت بين أعيننا كل يوم.