خيارات صعبة


هالة عبادي | سوريا

كتبت لي لونا - فهي لم تنقطع عن مراسلتي واستشارتي رغم أن حاجتها إلي كطبيب انتهت منذ فترة طويلة-:
عزيزي أبي الروحي:
يرغبون برؤيتي لأنني أصبحت "مشهورة"، أو هكذا صار يقال عني، ولقد دهشت بدايةً بهذا الوصف.
قويةٌ جداً هذه الكلمة؛ كنت أحياناً أهمس بها لنفسي في الليل مرة بعد مرة وأحاول أن أشم الرائحة التي تنبعث عنها، كان علي أن أكون مشهورةً في مجال آخر لكن لابأس وما دمت هنا علي أن أستفيد من الطاقة القصوى لها تأملتها كثيراً وحاولت البحث عن مركزها الاجتماعي وحضور إنجازاتها (كسائر الشخصيات المشهورة)، أدخل الغرفة، أنحني على مكتبي، أرفع كتباً أضع مدونات ودفاتر، وهم يحدقون بي لأنني كما زعموا "مشهورة" ، كان لنظراتهم ما يشبه صوت سكين تشحذ ملؤها القسوة والوحشية.  
حسناً لابد من أن أوضح أن ثمة فرق كبير بين مشهور ومشهورة ولو خيرت لاخترت أن أكون مشهوراً مالم يكن أمامي خيار ثالث.
أحياناً أنظر إلى نفسي في المرآة وأفكر في الأشياء التي قيلت عني - فقد سمعت جانباً مما قيل عني - قالوا أني بنت طيبة ذات طبيعة طيعة، وأنني متألقة البشرة صافية العينين، وأن شعري كستنائي أو بني، وأنني لا أزيد عن الطول المتوسط، وأني أرتدي ثياباً لائقة وأظهر بمظهر أعلى من إمكاناتي المتواضعة.
وقالوا أيضاً أنني لئيمةٌ ومراوغة، وأنني جهمة أميل إلى الشجار، وأنني بليدة وأقرب إلى البلاهة، ولازلت أتعجب كيف لي أن أجمع كل هذه الصفات المتناقضة والمختلفة، وأتساءل كثيراً هل أنا فعلاً من فاسدي الأخلاق أو ذوي النوايا الخبيثة ...حقيقة لست أدري.
كان علي أن أتعود على كل هذه الصفات والأشياء، رغم أني أشعر بالإشفاق نحو جميع هذه المخلوقات التي تقيم حالتي، وأعلم يقيناً أن إشفاقي عليهم نوع من العبث ، فقد كنت أنا الضحية، ولم أكن أستحق أية شفقة من وجهة نظرهم.
راق لي أن أحدهم اعتبرني لا أبدو شديدة الذكاء، وأشك أنه صدّق ما يقول وهو يعلم يقيناً ما يعنيه ذكاء القلب الطاهر، نعم لقد كنت من الجهل على درجة تجعلني لا أعرف كيف أتصرف، ولهذا كنت ضحية سافل أرغمني على الاستماع له طوعاً مني، وإن رجمي الآن هو نوع من    "القتل القانوني"
(ليس ثمة ما هو أكثر جنوناً من التضحية... صمتت قليلاً قبل أن تواصل متعمدة الفصل بين الكلمات، يوماً ما ستعرفين أننا لن نكون أبداً قادرين أن نعرف كل شيء)...
 كانت كمن تحدث نفسها أمام المرآة.
اتصل بي عادل - أنا طبعاً أعرفه من خلال ترديدها لاسمه أثناء فترة العلاج - فتحت له قلبي قلب المرأة الموجوعة، لكنه عاد اليوم إلي ببقايا ذاك الحديث القديم ليحفر هوةً عميقةً بيننا، بحقارةٍ أفشى لي بسرٍ عظيمٍ من ماضينا، ألقيت شعري إلى الوراء بالحركة الاعتيادية لدي، نعم لقد كان يوماً ما هاجساً بالنسبة لي، لكن قصتنا انتهت وإلى الأبد، فما الذي يبتغيه من وراء مثل هذا الكلام.
ما عاد بيني وبينه أيُّ شيءٍ منذ تزوجت، تعلم أني قد تركت لزوجي أن يجتاح قلبي وكل شيء، عادل حب الطفولة وقد انمحى مع أيامها - مغروراً كان بما يكفي لتركها مكسورة القلب - ما عدت أشعر تجاهه إلا بالعطف وبعض الحنان أما الحب فهو لزوجي وحده ، مذ تزوجني صار الحب كل الحب له وحده .
كأني أراها وهي تصف كيف أسندت رأسها إلى طرف النافذة البارد تتأمل الليل وكلمات الماضي...
استمعت له بإنصات وبدون أي مشاعر، لقد بذلت كل جهد حتى استعدت سلامي وهذا الهدوء، قاومت اضطراب النبض في قلبي والتزمت الصمت فيما كان يروي حكايته مع أخرى، امتزجت في قلبي مشاعر الغيظ والأسف كان حزيناً حزيناً لا غير ولهذا عاد، كنت أتأمل وجهه كان شديد القرب شديد البعد، حدقت عميقاً في عينيه وقد اجتمع فيهما الحزن والدهاء، هل جمع كل هذه التناقضات ليعود - كأنها تعلم أنه ما جاء إلا ليشتتها -
-    سلمتك روحي وهذا كل ما تفعلينه بها
-    أحب زوجي ما عدت أتنفس إلا من خلاله
-    تكذبين
ليلتئذٍ بقيت مشدوهةً صامتةً ...
ألح علي بالاتصال... أجيبي رسالة أرسلها إلى هاتفي
لم أجب، عقدت قبضتي وضربت على النافذة وارتفع صوتي بما يشبه الصرخة لا... لن أجيب
وحيدة واقفة في غرفتي، أتذكر المشهد وأستشعر فقر الكلمات وعجز الإحساس عن وصف ما أمر به، لقد انتبهت وهو يتحدث إلي بدهية أنه يطلب متعة ساعية فقط ، متعطشاً إلى ما فاته من متأخرات جنسية وحسية مني، أسرع إلي زوجي الذي أعطاني أكثر ما يمكن أن يعطيه الرجل.
 كاد الخوف يستولي علي ما تذكره من عاطفتي تجاهه أشبه بتهديدٍ لسعادتي وبيتي، لقد مسني شيء من الماضي هذا المساء، لكن لا لن أسمح لهذه الحرب العاطفية أن تترك أية آثار أو ندوب.
استعدت جديتي وشدة صلابتي حياله، استكملت زينتي وانضممت للسهر مع زوجي.
في اليوم التالي كان الجميع يتهامسون، يتحدثون بما أخبرهم به عادل عن ليلتي معه، بدأت المرافعة ...
كان الشهود جميعاً من فاسدي الأخلاق والضمائر، لم يكن ممكناً أن أتحمل ذلك...
أأظهر طبيعتي الميالة للشجار؟ ستنقلب الأشياء كلها ضدي.
في مثل هذه الحالة الأفضل التزام الصمت، لا يمكن للمرء أن يجازف، إذ لا يمكن للنمر أن يغير جلده ولو أظهر مشاعر طيبة ، تلوا شهاداتهم في وجهي -  وهو أمر لم أتمناه لنفسي، تناسوا تماماً ما ارتكبوه في حق جميع السيدات المحترمات في سبيل وضع حد لتعاستهن - على حسب ما رووا دون إحساس بالعار الذي يجللهم، كم هو فظيع ما ارتكبت بحق نفسي بمعرفتهم،   كان ذلك مؤلماً جداً.
لابأس أنا بينهم الآن... أرى وجهي أسود مما هو عليه حقيقة، أشعر بحرارة في الجو، ورائحة تجعل المكان خانقاً، تماماً كما تنتهي في كل مرةٍ نوبات الهذيان التي تنتابني كلما طافت بي صورهم وأطيافهم، أشعر بميل شديد لذرف الكثير من الدموع.
لا أعرف إن كان علي أن أتذكرهم، بم تنفع الذكرى، أعتقد أن بعض الأشياء يجب ألا يذكرها أحدٌ أبداً، ليتني أستطيع إعادة أول لقاء جمعني بهم، لو استطعت فقط، لابتسمت لهم وأكملت طريقي دون أن ألتفت...
أعدت قراءة ما كتبته مراراً، فكرت كثيراً، كان علي اختيار ردٍ مشجعٍ بعيدٍ عن اللوم والعتب فقد كان موجعاً لي - أنا الأب الروحي لها - ما كانت عليه لونا من إحساسٍ بالذنب وجلد للذات، أخيراً كتبت
حبيبتي لونا:
ليس مهماً أبداً ما يقولون، المهم إيمانُك أنتِ، فكوني أنتِ.
عودي إلى تلك التي تختبيء في مرآتك، أبعديها بكل ما أوتيت من قوة، حتى لا تري في المرآة إلا صفاء سريرتك وجمال طلتك التي تعتدين بها ويعرفها كل الذين لامسوا روحك وأحبوك
لا تترددي في الكتابة إلي كلما شعرت بالحاجة للحديث مع نفسك... لك تقديري وخالص الود .

 

تعليق عبر الفيس بوك