"محمود جمال".. نيبولا وأصابع مثيرة للغبار


عبد الوهاب شعبان| مصر
كاتب صحفي بجريدة الوفد
نستنشق الغبار في طرق متقاطعة، وفضاء أزرق استحال إلى طيني موحل، ثم لا يهزمنا سوى أظافر نحاسية مدببة تغرس في ظهورنا، وتنبش دواخلنا بلا أثر لشفقة.
(1)
تقودني خطاي دائمًا إلى حكايات معطوفة على أشباهها، تنسدل تفاصيلها على يقظتي ومنامي، وتعيدني إلى مثواي الأول حين كنت هذا الناشيء المغضوب عليه أينما حل، وتذكرني بخيبات التفريق العمدي - المجهز في دواليب الحقد، والكراهية - بين كل حالم معتزل عالمهم وأمنيته، حيث لا يمكن لـ"الوحيدين" في بلادنا النجاة بعاطفة، ولا حيازة التعاطف.
والوحيدون هم النابغون أحيانًا، ممن لا حيلة لهم في وأد أمنيات خارج سياق التقليد الأعمى لعادات القرية البليدة.
(2)
صوت هاتفي محذر: (صار اسمه نيبولا.. صار ملحدًا).
قبلها بساعات قليلة جرى اسم الشاب الطيب على طاولة جمعتني بصديق مشترك، أذن هذا البوح بلملمة شتات حكاية غابرة من كتب الفقد المعلقة على مشانق الصباح في شوارعنا، وبقيت آثارها عالقة في الذاكرة.
زرت صفحة "محمود جمال" على – فيس بوك- لم ألحظ في عباراته سوى صرخات مكتومة - (الإنسانية قبل الأديان، وبضعة عبارات متناثرة تثير الجدل، والتأمل معًا) - إثر وحدة مفاجئة، وسقوط من أعلى قمم الأمنية الوحيدة إلى قاع اللاشيء، ولما أمعنت في قراءة التعليقات راجعت ما مسني من ضرٍ حين أفصحت عن مبتغاي ذات مساء، وابتسمت لفعل المتحدثين باسم السماء، لقد آذاهم تغيير الاسم، والفتى لا يعلم أن ما يعنيهم هو "مظهرية المسميات، وفقط".
(3)
(نيبولا مسلم، ولا مسيحي)- هذا أهم ما يشغل بعضهم، أو جميعهم.
ولم يكترث أحد بالبحث ولو لدقائق معدودات عن معنى "اللفظ"، وهو وفق معجم المعاني لفظ إنجليزي يعني "السديم"، والسديم: بُقَعٌ سحابيّة متوهِّجة أو مُغيمَة في الفضاء ناشئة عن تكاثف أو تصادم عدد لا يُحصى من الأجرام السماوية، كما أنه يعني :التعب، والضباب الخفيف.
هل صار المعنى أوضح؟
استشهد الفتى ببعض نصوص للسيد المسيح تمس العفو، والرحمة، والحب، وتلقى وابلًا من الصراخ الهائج في الفضاء، يريد بعضهم أن يكسب جولة الزود عن الله، حاملًا فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه، ولا يعلم تأويله، ولن يعلم، المهم أن يدفع بما لديه من عبارات مقولبة لا أشك لحظة واحدة في عدم استيعابها.
وكل ما في الأمر أن هؤلاء تتلبسهم حالة واحدة مصنوعة، لا مطبوعة، ويكتنفها نفور الخلق أينما وجدوا، وهو على جانبه يأوي إلى فكرة منقوصة لم يستطع بلورتها بعد، ولا يريد تراجعًا مهينًا حسب تصوره- وفق ما أظنه -، لكنه في النهاية أعلن عن كونه إنسانًا، لم يخبيء ما أضمر فؤاده من حيرة وشك.
وعندنا ليس مسموحًا على الإطلاق بمخالفة ما وجدنا عليه آباءنا من مفاهيم – أيًا كان أثرها السلبي المرهق في بيئاتنا -، على الأرجح إذا تعلق الأمر بفكرة شاردة تستحق البحث، والنقاش، أو رغبة متفردة يرونها ضربًا من جنون السعي، أو سعي إلى الجنون.
(4)
أتذكر ما فعله أحد المكلفين بقضاء حاجات "اليتامى" في عام - 2009- حين طرح اسمي أمامه في جلسة خاصة مع سيدة قائمة على تجهيز البيوت، وما آلت إليه توصيته (إنه مدخن، ولا يستحق)، لأجل رؤية مسبقة كونها بناءً على شعري الطويل، وصمتي الأطول.
كان هذا كل ما لديه في لحظة فارقة، واتصلت بي السيدة تخبرني بما قال صاحب الوقار العائلي، الذي كان يسير منتفشًا كطاووس أخرق في الطرقات، فقلت "إنه رجل صادق، أنا بالحقيقة مدخن، وأفعل الموبقات، ولا أريد مساعدة من أحد، لا أنت، ولا سواك"، ولما جمعنا لقاء مفاجيء لدى إحدى الشخصيات المعروفة بعد التحاقي بصحيفة الوفد بدت على ثغره ابتسامة صفراء، ووصفني حينئذ بـ"الشاب المكافح المجتهد".
في الجلسة ذاتها خرجت عبارته الحاقدة كسهم اخترق صدري – أسرها في أذن من يجلس إلى جواره أثناء انشغالي بحوار مع صاحب البيت- (دا واد مجنون مستحيل حد يتقبله).
أذكر هذه القصة مشفوعة بدوافع الأمل الكامن خلف كل محنة فردية لـ"أحد المتميزين" في مجتمعنا، طاردًا هواجس الألم من عبارات التشفي التي تثقل كواهل المحبطين.
(5)
لا يرى كواليس النفوس، وعذاباتها إلا أصحاب التجارب وفقط، ودونهم الغوغاء.
دفع محمود عن نفسه شر الكتمان، وآلامه، ولاذ بالبوح في فضاء – غالبًا لا يتسع إلا للقطعان المتشابهة- يرجم كل مخالف، ويهزأ من المجربين- أيًا كانت تجاربهم.
وأخطأ إذ صدّر قناعات منقوصة تشبه الخواطر الهائجة، بعضها يؤذي، وبعضها يسهل مهام المتربصين، وكان أولى به مناقشة العقلاء، وطرح قضيته في صورة مكتملة تمنح النابهين فرصة التقاط ثوابت لحوار متفق عليها بين طرفيه.
وإذ لم تسفر تجربته عن شيء حتى اللحظة، فإنهم يحيطونه بسياج غريب، وغبي، تتقاطر من أعلاه البلادة، وحكم العادة، بلا منطق يذكر في التروي، والسعي الحثيث لسبر أغوار النفس الإنسانية، وتقلباتها، خيباتها المتكررة، وعزلتها، تجريدها مع سبق الإصرار من براحها، وسجنها في شائعات مهلكة، أودت في سابقها بـ"حلم بريء"، والآن تسعى لاغتيال ما تبقى من ذات عطوفة، نقية الفطرة، لم تتأخر ذات دعوة عن مساعدة المحتاجين، ورأب صدع المنكسرين.
(6)
(كم من فتى مستصوبٌ إبحارَهُ غرقا / لو أدرك التيار بعض خصاله ما كان يصرعه)- مريد البرغوثي.
قلت: إنّ هذه موجة عابرة، يتعرض لها من يصرعه الموج فجأة، ويجرده بلا شفقة من شاطئه، ومأمنه، وإنّ مثل هذه المعاني لا يفقهها إلا ذوو الفطرة الطيبة، وبين الفريقين ينعق الناعقون، ولأجل هذا يجب ألا ينصت إليهم السائرون باتجاه اليقين.
وهذا الجدل المحتدم على الشاب المبحر بحكم وظيفته يسير في اتجاه يستوي والعدم، ويحسم إذ تسوق له الأقدار محب صادق، وتأمل رائق، وبعدهما يحسم الأمر تمامًا.
وليكف مثيروا الغبار أصابعهم قليلًا، ويبتلعوا سموم ألسنتهم.

 

تعليق عبر الفيس بوك