ما لا تعرفه عن الأوبرا

 

مدرين المكتومية

من أراد أن يسمو بروحه فوق أزمات الحياة ومُعضلاتها، فعليه بالفن، ذلك الجمال الأخاذ الذي يسلب الألباب والأفئدة، ويسحر الأعين، والفن يتنوع بين اللوحة المرسومة أو الصورة الملتقطة بعين الكاميرا، لكن أروع أنواع الفنون ذلك الذي يمنحنا الأبعاد الثلاثة؛ الرؤية والصوت والشعور، وهنا نكون أمام فن لا يُقاوم، وفن الأوبرا على قمة الفنون المبهرة، والتي تتطلب من جمهور الأوبرا أن يكون مستعدًا لها من الناحية المعرفية، باعتباره فناً مركبًا، يمزج الديكور والموسيقى والأداء التمثيلي والغناء.

ومؤخرًا حضرتُ العرض الأوبرالي المبهر من الدرجة الأولى "لا ترافياتا" وهي رائعة جوزيبي فيردي الموسيقار العالمي الشهير. لكن قبل الخوض في تفاصيل العرض أود الإشارة إلى ثقافة حضور مثل هذه العروض، فللأسف البعض يعتقد أنَّ مثل هذه العروض لا تتعدى سوى الغناء بلغة لا يعلمها إلا القليل، لكنهم لو تمعنوا في هذا الفن وقرأوا عنه سيدركون حتمًا جمالياته العديدة.. فقد كنت ذات يوم من بين العديد من الأشخاص الذين لا تجذبهم عروض الأوبرا، لكن مع مرور الوقت والاهتمام بالحضور والبحث والقراءة عن العروض ومعرفة علم الأوبرا، اكتشفت جانبًا مختلفًا للغاية عن الذي كان يُخيل لي، اكتشفت أننا يجب أن نفخر بأنَّ لدينا مثل هذه الدار التي تحتضن عروضاً عالمية مرَّ على الكثير منها مئات السنين، فكلما قرأت عن العرض قبل دخوله كلما تكشفت لي تفاصيل وجوانب لم أكن أعلمها من قبل.

والزائر للأوبرا سيجد متعة خاصة كلما تعرف على ما يشاهده من عروض، وسيشعر أنَّ روحه تتراقص بين أروقة المسرح، سترتسم الابتسامة على وجهه مع كل عرض، ليس على المشاهد سوى أن يقرأ عن الأوبرا ويتمعن في دلالاتها، وسيجد كل المتعة الروحية في ذلك. والعروض الأوبرالية في حد ذاتها علم يدرس وليس بالسهولة اكتسابها وتعلمها لأنها تحتاج لجهد وتحد ذاتي، وفي المقابل أيضاً فنان الأوبرا يستغرق وقتاً طويلاً للغاية حتى يقف على خشبة المسرح.

أعود إلى عرض "لا ترافياتا"، وأقول إنَّ من يشاهده يُدرك حقيقة ذلك العمل الضخم والجبار، عمل يستحق الثناء، أناس يقفون على خشبات المسارح العالمية، ثم يأتون إلى دار الأوبرا السلطانية في مسقط، ليبهروا الجمهور العماني بهذا العرض المتكامل، عرض يمزج بين ثيمات الحياة والحب والتضحية.. عندما تخذلك الأمنيات ويخذلك الواقع تجر أذيال الحزن وترحل دون أن تتحدث عمَّا يؤذيك، تعيش عذابات مع نفسك وترتدي قناع القوة فتُعاني الأمرين، فرحيل من تُحب ومرض عضال ينهش جسدك، جسدته الجميلة ماريا مودرياك في دور فيوليتا، التي استحقت عن جدارة تصفيق الجمهور لها لجمالها ولأدائها، فعندما يجتمع جمال الوجه وإتقان العمل حينها يمكن أن نطلق على الشخص لقب "مبدع".

ولأنَّ العرض أخذنا بعيدا وأعادنا لحيوات ربما نجهلها ولأزمنة وسنوات رحلت منذ زمن، فلابد أن نتحدث قليلاً عن رحلة الأوبرا التي يمكن أن يجسدها أيضا المعرض الزائر "فكتوريا وألبرت.. 400 عام من الإثراء الأوبرالي"، والذي اختار مسقط لتكون أول وجهة له خارج العاصمة البريطانية لندن. هذا المعرض الذي يُجسد التاريخ، يشرح لنا تطور الأوبرا ورحلتها الطويلة إلى ما وصلت إليه الآن وأصبح لها عشاقها ومرتادوها، فعندما يمضي الزائر في ممرات المعرض يشعر وكأنه يعيش كرحالة يستمتع بالترحال من عصر لآخر ومن بلد لآخر ومن مدينة لأخرى، يجوب الطرقات والأزقة الضيقة بحثاً عن الفن والإبداع وإيقاع الحياة المتسارع الذي نصنع منه سيمفونية عذبة نواصل خلالها تسجيل وتدوين المستقبل، فالتاريخ كالجسور المعلقة نعبر من خلاله إلى المستقبل، فمن لم يتعلم من التاريخ لن يدرك الحاضر ولن يكون مستعداً للمستقبل، مستقبل لم يكن ليكون لولا أننا حفظنا التاريخ وتناقلناه وحاولنا جاهدين تدوينه وتخليد أبطاله.. هذا هو الحال مع "رحلة الأوبرا العالمية إلى سلطنة عمان" رحلة الماضي إلى الحاضر الذي سنكتب به المستقبل، تلك الرحلة التي انطلقت من إيطاليا لتتنقل بعد ذلك إلى لندن وفرنسا وغيرها من عواصم الفن وصولاً إلى مسقط لؤلؤة الفنون في الخليج.