"عمان 2040".. حتميات لا خيارات (1-2)

د. مُحمَّد بن سعيد الحجري

كان المؤتمر الوطني حول الرؤية المستقبلة 2040 هو الحدث الأبرز خلال الأسبوع الماضي، وهو المؤتمر الذي خُصِّص لمُناقشة مسودة مشروع الرؤية، بعد أنْ بُذلت خلال الأعوام الثلاثة الماضية جهودٌ مضنية لإنجازها في محطات متعددة، توخَّت أكبر قدر من الشراكة لتحقيق توافقٍ مجتمعيٍّ يضمنُ تعاون الجميع في إنجازها، وتحقيق أهدافها عندما تدخلُ حيزَ التطبيق، إنَّ حُسن التنظيم رغم ضخامة المؤتمر الذي قارب حُضُوره 3000 مشارك، وجَوْدة اختيار أغلب المتحدثين الدوليين، وارتفاع سَقف النقاش أمرٌ لابد من تهنئة مكتب الرؤية عليه؛ فقد كانت وثيقة الرؤية في حاجة لوضعها تحت نقاش مُفصِّل، هيَّأ له المؤتمر مناخاً ملائماً، كما أنَّ القائمين على الرؤية فتحُوا الباب للنقاش وللإضافة ولإبداء الملاحظات على كل ما ورد في مسودة الرؤية خلال هذين الأسبوعين اللذين تليا المؤتمر.

 

* حديث المصداقية ونقاشات الخبراء:

على حين بذل كثير من الخبراء العُمانيين والدوليين جهدَهم لدراسة الرؤية وتحليلها، لاحظ الجميع أن أكثرهم إقناعاً ومصداقية وجدوى هم الأكثر واقعية ووضوحاً في مواقفهم ومقارناتهم، ومن يقدم لك الحقائق دون تغليف كما هي لا كما نتمناها نحن، وهذا هو الأصل في الخبراء الدوليين، فأنت لا تتعاقد مع خبير دولي ليقول لك كلاماً أملس يُفرِحك سماعه حتى ولو كان خلافَ الحقيقة، بل ليقدم لك خلاصة تجربته أو تجربة دولته، وليضعك في هذا السياق من تجارب الأمم حتى تعرف أين موقعك؟ وإلى أين يجب أن تتجه؟ وما الخيارات الأفضل للوصول إلى هدفك؟

ومع كون المؤتمر وطنيًّا في الأساس وبذل فيه كثير من الخبراء العمانيين جهداً راقياً هو محل الاحترام والتقدير بلا شك فـ"الرائد لا يكذِب أهلَه" كما يقول المثل المأثور، لكنَّنا وجدنا أن بعض المتحدثين العمانيين لم يُكلفوا أنفسهم الاطلاع على الوثيقة فيما يبدو، ولم يُقدموا قراءة مفصلة لمسودة الرؤية، وتحليلاً لعناصرها كما تقتضي مهمتهم، وذهبوا لتكرار ذات الطرح المألوف الذي قد لا يتصل بالرؤية.

إنَّه لأمر مهم لمشروع الرؤية أن يستمرَّ النقاش بين الخبراء حولها عبر وسائل الإعلام، وكم كُنَّا نأمل أن تلتقط وسائل الإعلام هذه الفرصة، وتُطلق البرامج المتخصصة والمفتوحة لمناقشة مشروع الرؤية من كلِّ زواياها :الاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، وفي كلِّ محاورها الرئيسة الثلاثة، لكنَّ هذا النقاش الإعلامي المفصَّل لم يحدُث بعد، ونأمل أن نجده خلال الأيام المتبقية قبل رفع مسودة مشروع الرؤية؛ فهو واجبٌ حتميٌّ على وسائل الإعلام وعلى الخبراء كلٍّ في مجاله، وفي تقديري أنَّ هناك الكثيرَ من الخبراء العُمانيين -خاصة في مجالات الاجتماع والبيئة والتشريع والسياسة والعلاقات الدولية- ممن لم يحضُروا المؤتمر، أو حَضُروه ولم يجدوا فرصةً لتقديم آرائهم، يُمكن أن يجدوا في هذه المساحات الإعلامية فسحةً لآرائهم، وهي مِساحات أرجو أن لا تتأخَّر في الاهتمام بمشروع الرؤية.

 

* الهُوية الوطنية ومشروع الرؤية:

حُضُور الهُوية الوطنية والاعتزاز بها في مشروع الرؤية في محور "الإنسان والمجتمع" أمرٌ مهمٌّ جدًّا، أصاب المشروع في التأكيد عليه؛ فالهوية تمثل ركيزة "القوة الناعمة" للمجتمع، والتشبُّث بها ضروري، خاصة في مراحل التغيير التي تتخوَّف منها المجتمعات عادة وقد تقاومها، وهو ما ترجمه هذا المحور بعبارة "مجتمع إنسانه مبدع، مُعتز بهويته، مُبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام"؛ فالاحتماء بالهوية هو الذي يضمن الانطلاق في تطوير المجتمع بطمأنينة وثبات وثقة، بل هو في تجربة النهضة العمانية الحديثة كان ضَمانة للانطلاق في بناء الدولة والمجتمع، وهو أحد أسرار وعوامل نجاح النهضة في مشروعها منذ 1970م، والتمسُّك به سيعطي للمجتمع حصانة واثقة لتجاوز ضرورات التغيير وتحدياته بوثوق وصلابة.

 

لوازم الشراكة المجتمعية.. ومن يَقُود مشروع الرؤية؟

الشراكة المجتمعية مبدأ مُهم نصَّت عليه الأوامر السامية مع انطلاق صياغة مشروع الرؤية، وهو ما يقضِي بتوسيع دائرة الرأي من الجميع ليكونوا شركاء في وضع الرؤية، وليكونوا أكثر التزاماً وحرصاً على تطبيقها في المستقبل، لكن بعض الخبراء العُمانيين والدوليين نبَّهوا إلى عدة نقاط مهمة متصلة بهذا الجانب:

- أنَّ الشراكة في وضع الرؤية نعم تُحمِّل الجميع مسؤولية التطبيق في الحكومة وفي أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص، وفي المجتمع ومؤسساته الأهلية وأفراده، لكنَّ ذلك يعني بداهة وبالضرورة أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن تطبيق الرؤية؛ فالدولة بكل أجهزتها هي قائدة المجتمع، وهي صانعة التغيير، وهي التي تُدير سلسلة الأولويات الوطنية الثلاثة عشر التي حدَّدها مشروع الرؤية، ومن المهم أن ينص مشروع الرؤية على ذلك؛ فمسؤولية الدولة قائدة، ومسؤولية القطاعات الأخرى تابعة لمسؤولية الدولة الأولى.

- أنَّ الشراكة تفرضُ مزيداً من الإلزام بنقل الرؤية إلى حيز التطبيق، والمضي إلى ذلك قُدماً دون تردد أو تراجع، ويمكننا تصور أن هذا ما توخَّته الأوامر السامية التي ألزمت بهذه الشراكة.

- أنَّ ذلك سيتطلب مع تطبيق الرؤية إدارةً للتغيير وإدارة للتوقعات التي ينتظرها المجتمع كذلك، وهما أمران يُمثلان تحدياً هائلاً لأي مجتمع ودولة تقف أمام استحقاقات مفصلية، وأمامها سلسلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وهي في مناخ منافسة عالمي وإقليمي لا يتوقف، وهذا يقتضي قدراً عالياً من الحكمة والقرب من المجتمع والانفتاح عليه وإشراكه في السياسات، وإقناع المجتمع وكسب ثقته بجدوى السياسات في المستقبل المنظور والبعيد، حتى وإن اقتضت تغييراً أو انتقالاً من مسار معهود إلى مسار آخر.

 

تعليق عبر الفيس بوك