عبيدلي العبيدلي
طَغَت تغطيات زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، على سواها من الأخبار العربية والعالمية؛ فقدأحتلت صفحات الجرائد الأولى، وتصدرت نشرات الأخبار. وتراجعت أمامها أخبار ساحات ملتهبة مثل سوريا وفنزويلا، وما يجري في دول كبرى مثل مناقشات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومشاريع الرئيس الأمريكي ترامب لبناء الجدار العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك.
ليس هناك من بوسعه أن ينكر أهمية تلك الزيارة، خاصة عندما يضاف إليها حضور شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، الذي تدرج في مناصب دينية في غاية الأهمية؛ حيث تدرج الدكتور أحمد الطيب في عدد من المناصب، قبل أن يعين في 19 مارس من العام 2010 شيخا للأزهر. ولعل من أهم إنجازات حضور القامتين الدينيتين توقيعهما على وثيقة الأخوة الإنسانية أولا، ثم وضع أساس صرح تتجاور فيه كنيسة المسيحية مع مسجد الإسلامي، إضافة لكون هذه الزيارة هي الأولى من نوعها لبابا الفاتيكان لأي من دول الخليج العربي.
تكتسب هذه الزيارة -ومعها ذلك اللقاء المسيحي – الإسلامي- أهمية متميزة، كونها تأتي في مرحلة تكاد تكون حاسمة في تاريخ المنطقة العربية المعاصر؛ حيث تندلع الفتن الطائفية في أكثر من بلد عربي، وتشتعل الحروب التي تغذيها النعرات الدينية في بلدان عربية اتسم تاريخها بالتسامح بين الأديان مثل مصر.
وتقف نتائج هذه الزيارة -التي اعتبرها البعض منا مفاجئة- أمام خيارين لا ثالث لهما؛ الأول منهما: أن تكتفي الأطراف الثلاثة: العرب -ممثلين بدولة الإمارات- والمسيحية -يجسدها الحبر الأعظم- والإسلام -في الجبة الأزهرية- بالمكاسب الإعلامية، وهي ليست بسيطة، لكنها أيضا ليست كافية، والأخرى سياسية تتطور من خلالها الزيارة إلى مشروع سياسي عملاق تستفيد منه تلك الأطراف الثلاثة، وتعم فوائده دولا أخرى، بل ربما يتسع نطاق الدائرة فتصل فوائدها إلى المحيط العالمي.
ولا شك أن البابا قد فضل الخيار الثاني؛ يعكس ذلك ما جاء في خطبته التي يلقيها كل يوم أحد، وسبقت وصوله إلى دولة الإمارات؛ حيث تعمد أن تكون عناصرها سياسية، بدلا من حصرها في دائرة وعظ ديني محض، فتعرض فيها إلى ما يجري في اليمن، مشيرا إلى أن "الصراع الطويل أوصل الشعب اليمني إلى مرحلة غاية في المعاناة؛ إذ يعاني الكثير من الأطفال من الجوع، لكن هؤلاء يعجزون عن الوصول إلى مستودعات الأغذية"... وحث البابا أطراف الأزمة اليمنية والمجتمع الدولي على ضمان تنفيذ الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقا وتوزيع الغذاء بين سكان اليمن، على وجه السرعة.
ولكي تحقق الإمارات -ومن ورائها البلدان العربية- الفائدة القصوى، التي نطمح لها، من تلك الزيارة، التي خطط لها بشكل جيد، عليها ألا تكتفي بالمكاسب الإعلامية، وتتجاوزها بشكل واع مخطط له، إلى تلك السياسية، بل ربما حتى الاقتصادية أيضا، من خلال الخطوات التالية:
- تحويل وثيقة "الأخوة الإنسانية" من مجرد ورقة وقعها رئيسا أكبر ديانتين في العالم، وهما المسيحية والإسلام، إلى برامج عمل تنموية يجري التخطيط لها بالتعاون مع المؤسستين الدينيتين: الأزهر والفاتيكان، بعد تخليص تلك المشاريع من أية هيمنة دينية يشتم منها رائحة الانحياز الديني. ومن الطبيعي أن تتحقق من وراء تلك المشروعات التنموية المتحضرة مجموعة من المكاسب السياسية التي أصبح العرب اليوم في أمس الحاجة لها.
- استخدام ما جاء في تلك الوثيقة الإنسانية من دعوات، يفترض أن تكون صادقة، لمحاربة المشروعات الخارجية التي لم تكف يدها عن إثارة النعرات الطائفية، المبنية على انتماءات دينية، تحتل المسيحية والإسلام مساحة واسعة فيها، والتي تطورت، في مراحل لاحقة، كما نعيشها اليوم، من مجرد خلافات عقائدية، إلى معارك عسكرية، عانت منها البلدان العربية، ولم تنجو منها دول أخرى، واستنزفت قوى الأطراف الضالعة فيها، وشكلت نزيفا مستمرا ما زلنا نحن العرب نعاني منه في بلدان مثل مصر ولبنان، بل وحتى العراق.
- التأسيس لمشروع حضاري أممي، تكون دولة الإمارات العاصمة الحاضنة له، يؤسس من خلال التجاور الجغرافي للمسجد والكنيسة، لمشروع أممي ضخم يقود إلى حوار حضاري متقدم تكون الديانتان نواته الصلبة، لكنه يشمل في إطاره العام ديانات أخرى تبدأ باليهودية، ولا تقف عند البوذية، بل تتجاوزها كي تضم تحت عباءتها ملل صغيرة أخرى ليس هنا مجال سردها.
- بناء جامعة أممية للدراسات الدينية، توفر لها جميع المتطلبات الأكاديمية، المصحوبة بهامش واسع من حرية البحث العلمي الموضوعي، تكون قبلة للمتخصصين في الدراسات الدينية. هذا التزاوج الراقي بين الحرص على التقيد بالمكونات الأكاديمية والحرية الفكرية، من الطبيعي ان يتناسل منه صرحا حضاريا شامخا، يقود إلى نهضة فكرية تؤصل لدراسات دينية متنورة تهشم أصنام التقوقع الفكري العربي الذي قادنا إلى إفرازات دينية تمظهرت في شكل حركات دينية متطرفة، ابتعدت كل البعد عن التسامح الديني، ونهجت، عوضا عنه، التطرف الإرهابي، الذي ينهش جسد الأمة العربية، ويتسنزف خيراتها، ويشوه معالم صورتها في عيون العالم، ويضع بين يدي أعدائها أسلحة توجه نحوها، وترغمها على العودة لعصور الظلام الفكري المتخلفة.
لا شك أنَّ استثمار تلك الزيارة على نحو جيد، ونقلها من دائرتها الإعلامية، إلى فضائها السياسي الذي نتحدث عنه، ليس بالمهمة السهلة، وتشكل تحديا حقيقيا لا يواجه العرب، وفي مقدمتهم دولة الإمارات فحسب، بل حتى العالم الغربي، بما فيه دولة الفاتيكان.
لكنَّ المشروعات العملاقة في كل أرجاء العهالم تبدأ بتحد، يتحول عندما تواجهه عقول مفكرة نيرة، وأيد صلبة مصممة، إلى حقيقة ملموسة، وهذا ما يتطلع إليه اليوم المواطن العربي كنتيجة عملاقة منطقية لتلك الزيارة البابوية ومصاحبتها الأزهرية.
لقد نجح الإنسان عندما قرر مواجهة التحديات التي تقف في طريقه، أن يقضي على ظواهر ما كان يصنف في خانة المستحيلات. وفي وسعنا نحن العرب ان نكون جزءا من حركة ركب حل مشكلاتنا التي أصبحنا أسرى وهم أنها أنها حقيقة مسلمة لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن تحقيق ذلك عندما نحصر مكاسب زيارة البابا في دائرة البريق الإعلامي الذي كثيرا ما يخطف الأبصار.