أبو عبدالرحمن كما عرفناه

عبدالله العليان

الشهادة في القريب قد تكون مَجرُوحة، بحُكم القرابة والعلاقة العائلية، والشهادة في أخي وابن عمي الكاتب والإعلامي محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن العليان -رحمه الله- لا بد منها لمن لا يعرفه عن قرب، فقد وُلد في ولاية طاقة 1960، عندما كان والده الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن علي العليان مأمورَ الجمارك بالولاية آنذاك، قبل تقاعده -رحمة الله عليه- وقد تلقَّى دراسته الابتدائية في هذه الولاية، وبعد ذلك تم تعيينه أمينَ مكتبة تابعة لوزارة الإعلام والثقافة آنذاك بها، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعندما انفصلت الثقافة عن وزارة الإعلام، وأصبحت تابعة لوزارة التراث القومي (الثقافة)، انتقلتْ المكتبات التابعة للوزارة في صلالة وطاقة ومرباط، إلى مقر الإذاعة، وانتقل أبو عبدالرحمن إلى صلالة، وعمل في الإذاعة، مع مواصلته الدراسة، كعادة الكثيرين من الشباب في بداية السبعينيات الذين جمعوا بين العمل والدراسة في السبعينيات بالأخص، وأنا واحد منهم.

ركَّز المرحوم في فترة أمانته للمكتبة على القراءة والاطلاع على الكتب والمجلات والدوريات المتخصِّصة، وانفتح على قضية العرب والمسلمين الكبرى ( لسطين)، وكان بتلك الفترة حِراك كبير: سياسيًّا وعسكريًّا؛ كانت تعج بها المنطقة العربية، وفي لبنان خاصة، في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وعزم أبو عبدالرحمن على الذهاب للنضال والقتال مع الفلسطينيين في جنوب لبنان، مع زميله في الدراسة عدنان بن عامر بن أحمد الشنفري، وكان معهم زميل آخر، لكنه تأخر لظروف خاصة في اللحظات الأخيرة، تم الترتيب لهم للسفر عن طريق أحد المدرسين الفلسطينيين بصلالة، سافروا -دون أن يعلم عنهم أحد- إلى دولة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي) ومن ثم إلى جنوب لبنان، وبعد يوم كامل، استغرب والده -رحمه الله- من غيابه عن البيت، ففتح بعض ثيابه للمعرفة، فوجد في بعضها رسالة صغيرة، يطلب السماح من والديه، بأنه ذاهب للقتال مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم ينهوا في تلك الفترة المرحلة الثانوية، وكان يفترض أن يكملوا دراستهم، ثم لهم الخيار في هذا الأمر؛ فتم التأكد بعد أيام أن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في أبوظبي -السفارة الآن- قد رُتب لهم الحجز إلى دمشق، ومن ثمَّ إلى جنوب لبنان، والتحقوا بحركة فتح، وتمَّ ضمُّهم إلى إحدى الفرق القتالية، وتنقل المرحوم وزميله في العديد من الأماكن في الجنوب اللبناني بين (قلعة الشقيف، والنبطية، والعديد من المناطق)، وتمَّت تسميته باسم حركي "أحمد عمير"، وكانت تلك المناطق، تتعرض للقصف كثيراً، ويحكي أبو عبدالرحمن، قصة عودته، بعدما يقرب من عام كامل مع المقاومة، فيقول: بعد انتقالي إلى قلعة الشقيف في الجنوب "رأيت في منامي والدي -رحمه الله- يأتي إلى القلعة -قلعة الشقيف- فرقَّ قلبي له رقَّة شديدة، وقلت له: هذا المكان خطير -في المنام- وفي ظهيرة اليوم التالي إذا بسيارة التموين التابعة للكتيبة تأتيني برسالة منه (والده)، يستعطفني أن أعود، وقد كان له ما أراد". وكان والده يرسل هذه الرسائل، عن طريق مكتب المنظمة في أبو ظبي، ومن ثم يتم إرسالها له دون أي حذف أو تغيير، وقد وعدوا بذلك وكانوا بحق صادقين، بعد ذلك التقى أبو عبدالرحمن وزميله عدنان بقائد كتيبتهم، وأبلغوه برغبتهم في العودة، وسلَّم كل واحد منهم ألفَ دولار، وقال لهم القائد: اتصلوا بأهلكم، في الدولة الخليجية، التي ستذهبون إليها من دمشق، فإن وجدتم صعوبة في العودة، فلكم الخيار في العودة مرة أخرى، وعندما وصلوا أبوظبي من دمشق، اتصل عدنان الشنفري بوالده عامر بن أحمد بخيت الشنفري -رحمة الله عليه- وأبلغه نيته العودة، فقال له: وطنكم مرحب بكم، وأنتم ذهبتم لقضية عادلة، ولن تجدوا شيئًا يضركم.

وعادوا إلى وطنهم عُمان، والتحقوا بدراستهم، وأكملوا المرحلة الثانوية، وعاد أبو عبدالرحمن إلى عمله بالإذاعة بصلالة، بعدما تم إنهاء خدماته بعد أشهر بسبب الغياب، وجاءت العودة بموافقة من معالي عبدالعزيز الرواس وزير الإعلام آنذاك -مستشار جلالته للشؤون الثقافية الآن- وحصل بعد الثانوية العامة على بعثة دراسية بجامعة "توليدو" بولاية أوهايو بالولايات المتحدة تخصص إعلام. وبعد عودته، عمل في الإذاعة كما كان سابقاً، وتنقل في العديد من الأقسام لسنوات، وترأس بعضها، وكان أبو عبدالرحمن مشهودًا له بين زملائه في الإذاعة بالكفاءة الإعلامية، سواء في التحرير، أو البرامج الحوارية، أو غيرها من المهام الإعلامية، ثم انتقل إلى التليفزيون.

وسار أبو عبدالرحمن على سيرة والده -رحمه الله- في الدعوة إلى الله، وسافر للكثير من بلدان العالم، في أوروبا، وآسيا، وإفريقيا وفي مناطق عُمان وأغلب ولاياتها، إلى جانب اهتماماته الكتابية بالتاريخ، والجديد في مجال العلوم وقضايا الفكر، وقضايا التراث، وشارك في العديد من الندوات والمحاضرات؛ منها مشاركته ببحث في ندوة "طاقة عبر التاريخ" قبل عامين، وكذلك مُشاركته بمحاضرة العام 2017، في معرض مسقط الدولي للكتاب؛ بمناسبة اختيار "صلالة ضيف شرف المعرض"، وأيضاً العديد من المشاركات والكتابات في مجلة الفلق الإلكترونية، والمجلة الثقافية التي يصدرها مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، وقبلها أيضا كان له مقال أسبوعي بجريدة "الوطن"، وأصدر المرحوم العديد من المؤلفات؛ منها: كتاب "الفلسفة والدين وأشياء أخرى"، ونتيجة متاعبه الصحية، لم تُتَح له الفرصة الكافية للكتابة والتأليف، ونأمل أن يُجمع بعضَ ما كتبه في السنتين الأخيرتين.. رحمه الله رحمة واسعة.