مقابلة نصر الله ومستقبل التطبيع

 

علي بن مسعود المعشني

حين خرجت مصر من مُعادلة القوة وكُبلت باتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني عام 1978م، شعر الكيان ورعاته الدوليون ومناصروه في المنطقة بأنَّ ما يُسمى بأمن الكيان الصهيوني قد تحقق أخيرًا وأنَّ عصر الحروب قد ولى من المنطقة وأن التطبيع سيكون فرض عين على جميع العرب وبلا خيار أو استثناء وأنهم سيتقاطرون إليه مكرهين طال الزمن أو قصُر طالما خرجت مصر بقوتها وحجمها وتأثيرها من الصراع، وأن تطبيع سوريا مع الكيان مسألة وقت لا أكثر فجميع الحسابات السياسية والعسكرية في المنطقة ليست في صالحها.

المأساة أنَّ الرئيس السادات ذهب إلى التطبيع أبعد مما يحلم الصهاينة أنفسهم وقدَّم تنازلات جسيمة وعلى رأسها عزل مصر عن مُحيطها العربي وخسر حليفه الروسي بطرده للخبراء الروس وفشل في حشد موقف عربي رسمي واحد إلى صفه ثم فقد العناصر الوطنية المصرية من حوله باستقالة وزيري خارجيته إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل تباعًا احتجاجًا على زيارته للقُدس ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، حيث ذهب السادات إلى الكيان الصهيوني بلا مناعة شخصية وبلا مناعة لمصر بعد فقد الحليف السوفيتي القوي ومناصرة العرب والعناصر الوطنية؛ حيث سهل على الكيان وكيسنجر ابتزازه وتكبيل مصر ببنود أثقلت عليها وقيدت حركتها وأفقدتها ماتبقى لها من أعراض حيوية سياسية وتأثير في المنطقة، الأمر الذي سهل عليهم التخلص من السادات لاحقًا وتمكين نظام هش بُني على أنقاض هشة كدولة فقدت الكثير من مناعتها وبريقها وحيويتها بمحض اختيار قادتها وإرادتهم. وبقيت سوريا رافضة لفكرة السلام على طريقة التطبيع مستندة على دعم جبهة الصمود والتصدي والتي تشكلت بُعيد كامب ديفيد من كل من العراق وليبيا واليمن الجنوبي إضافة إلى سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. ورفع الزعيم حافظ الأسد شعار: "أن تبقى أرضنا محتلة ونحن بكرامتنا خير لنا من استعادة أرضنا ونحن بلا كرامة. خيار حافظ الأسد ومبدأ اللا حرب واللا سلم أرهق العدو والراعي الأمريكي معًا حيث تيقن "العراب" هنري كيسنجر حينها ألا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا حيث كان يُردد على الدوام وفي كل مناسبة. ولم يمض عام على اتفاقية كامب ديفيد حتى تفجرت الثورة الإيرانية عام 1979م، وخلطت أوراق الصراع وقواعد الاشتباك برمتها في المنطقة بفقد الغرب والصهاينة حليفا بحجم الشاه، وبقطعها للعلاقات مع الكيان الصهيوني ومناصرتها الجلية للقضية الفلسطينية شكَّلت صدمة عنيفة للغرب وعلى رأسه أمريكا وصدمة مضاعفة للكيان الصهيوني والذي لم يهنأ بحلم السلام ولا بطعم كامب ديفيد بعد. وجد الزعيم حافظ الأسد- وهو العقل الإستراتيجي الفذ- في إيران الثورة حليفا إستراتيجيا قويا ورصيدا نضاليا صلبا وهبة من السماء بعثرت الأوراق والمواقف ومن هنا تيقن من صلابة موقفه في السلام والحرب وجعل من نظرية كيسنجر شيئاً من الماضي حين نطق الواقع بشعار جديد وهو"لا سلام ولا حرب بلا سوريا".

وتعاظم الدور السوري في المنطقة بصمود الثورة الإيرانية الوليدة في وجه المؤامرات والحصارات الغربية والإقليمية وأصبحت سوريا الأسد المطلوب رقم واحد في المخطط الغربي لتمرير التطبيع في المنطقة باسم السلام. فكان تركيز المخطط على إنهاك الأذرع والأطراف المساندة والداعمة لسوريا وبترها تدريجيًا عبر إدخال إيران الثورة في حرب ضروس مع الجارة العراق ثم اجتياح لبنان عام 1982م، لتقليم أظفار فصائل المقاومة وزعزعة استقرار سوريا من خاصرتها الرخوة وهي لبنان.

أرهقت إيران الثورة بحرب مُباغتة ولكنها لم تنكسر وأرهقت فصائل المقاومة ولكنها لم تنهزم ثم انتقلت قيادتها إلى تونس، وهنا شعر الصهاينة بأنهم استعادوا شيئًا من حلم السلام الدائم واقتربوا من التطبيع بعد ضمانهم وتأمينهم لجبهات لبنان ومصر وقبلهم الأردن بعد سبتمبر 1970م. لم يكن أشد المتفائلين ولا أشد المتشائمين كذلك ممن عايشوا تلك الأحداث يحلم بعودة وضع يُهدد الكيان وفي عمقه وكما هو الحال اليوم من فصائل المقاومة في لبنان وغزة ورديفهم السوري والإيراني، فهذه الفصائل في حقيقتها التاريخية عبارة عن ولادة قيصرية لمقاومة شعبية من رحم المُعاناة ونتيجة حتمية لتخاذل النظام الرسمي العربي أمام حقوق مشروعة واستحقاقات تاريخية وحضارية لأمة تجر عقودا من الأمجاد وتتطلع لأمثالها لتسترد مكانتها اللائقة بين الأمم. لم يحقق كيان العدو انتصارًا عسكريًا واحدًا منذ معركة الكرامة مع الجيش العربي الأردني عام 1968م، ولغاية اليوم ولكنه كان بعد كل حرب يُراهن على الراعي الأمريكي لتحقيق مكاسب سياسية مستغلًا تخاذل النظام الرسمي العربي ووهنه، هذا التخاذل الذي يعتبر أخطر سلاح وأكبر قوة يستثمرها العدو ليجني من خلاله مكاسب سياسية لا تُعد ولا تُحصى. اليوم أدرك حلف المقاومة اللعبة جيدًا ولم يعد من الممكن للنظام العربي الرسمي أن يُهدي المكاسب والانتصارات المجانية للعدو وحليفه وراعيه الأمريكي تحت أي مبرر، بل وأصبح للنظام العربي الرسمي خياران لا ثالث لهما وهي الوقوف مع العدو أو الوقوف مع الحق العربي. لهذا أدرك العدو الصهيوني والراعي الأمريكي أنَّ قواعد اللعبة وأوراقها في المنطقة قد انتقلت وبشكل شبه كامل إلى معسكر المقاومة وخيارها، وأن النظام العربي الرسمي على وشك الإقلاع النهائي من المعادلة، فعمد الصهاينة ورعاتهم إلى الإسراع في التطبيع وهم يعلمون أنَّ المكاسب شبه معدومة ولكن المكسب الأكبر هو إحداث الفجوة الكبرى والقطيعة النهائية بين معسكري التطبيع والمقاومة ودفعهم للاحتراب بالوكالة عنهم كخطة بديلة عن سلاح التخاذل الرسمي العربي في سابق العصر والزمان.

مشكلة النظام الرسمي العربي أنَّه لا زال يعيش في المربع رقم واحد من الصراع العربي الصهيوني ولازالت تحكمه عقلية الأثر الرجعي والقضاء والقدر الأمريكي ولم يستوعب كل التحولات في المنطقة والعالم منذ عام 1979م ولغاية اليوم، بينما أدرك الصهاينة ورعاتهم واستوعبوا جميع هذه التحولات وعلى رأسها وخاتمتها هزيمتهم الإستراتيجية الفادحة في سوريا، هذه الهزيمة التي جعلت الكيان اليوم في موقف دفاعي بحت عسكريًا وتحت رحمة وتأثير خطابات السيد حسن نصرالله زعيم حزب الله اللبناني؛ حيث تحولت القدرية العربية بفعل الغرب إلى قدرية صهيونية أمريكية بفعل حلف المقاومة، ومن تابع لقاء السيد حسن نصرالله مع قناة الميادين مؤخرًا بعقل منفتح وتخلى عن موروث الصور النمطية المسكوبة في العقول وجال بعقله وحواسه في اللقاء وردود الأفعال عليه من زاوية العدو يُدرك وبكل يقين أنَّ الصهاينة ورعاتهم وأعوانهم في مأزق تاريخي حاد أقعدهم عن التفكير في الغد، بل وجعل خياراتهم في الحرب كمرارة السلام الإستراتيجي الخالي من كل شوائب وأدران التطبيع وإملاءات السيد الأمريكي، وأن النظام العربي يُزف إلى حتفه ويُضحى به في وضح النهار كورقة أخيرة يُراد حرقها لتضيء طريق الهروب للقوى التي كانت لا تُقهر.

فسقف مطالب الكيان اليوم هو السعي لتفعيل اتفاق الهدنة مع سوريا والموقع عام 1974م لضمان جبهة الجولان بوجود قوات فصل دولية وكما كان عليه الحال في السابق، وسقف مطالب الشريك التركي في دمار سوريا هو العودة إلى "اتفاق أضنة" الموقع بين تركيا وسوريا في زمن الزعيم حافظ الأسد لتنظيم التعامل مع الخروقات الحدودية بين البلدين من أي مخاطر محتملة، فالواقع اليوم ينطق بأن الأمر برمته خرج من يد النظام الرسمي العربي وأصبح بيد الشعوب بقراءة سريعة ومقتضبة للتحولات في المنطقة، لهذا يسعى الكيان بوعيه ومجساته إلى استشعار واقعه وأجله من حراك ومنطوق محور المقاومة وليس من تطبيل وهرولة المطبعين.

قبل اللقاء: "من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه إنتاج عثراته".

وبالشكر تدوم النعم..