قصتان: "في القبو" و"المسخوط والمسبحة"


د. محمد الدفراوي | مصر

 (1) "في القبو"
سأبقي وحيدا ، نكرة  ، ما دمت حيا . .
لم  يكن يتكلم  مع أحد عن كل ما في قلبه، فقد ظن أن   لن  يفهمه  أحد .. فالناس يفهمون الناس  بعد موتهم فحسب..   بطبيته الطفولية خلا إلى نفسه يحدثها  بما كان و ما سيؤول.. انعزل  في قبو  فقير  كدودة القز  لم  تخرج من الشرنقة، يخلو الإ  من بعض العوائذ، يلتمس الراحة  بعدما  تملكه  شعور أليم بالغربة.. أجبر  نفسه الهامدة   علي الانطواء، محاط بأجواء من الريبة وسوء الظن في كل ما يصدره، اكتشف أن الناس اقسى بكثير  مما  هم  عليه في الواقع..  فبخل عواطفهم  فوق ما  يتصور كائن حي المشاعر.. تجرع  مرارة ان يعيش الفقد  في دنيا الأحياء ..  الضجيج نفسه يلاحقه اينما ذهب ..  ضحي بكل شيء  من أجلهم  نثرا..  لم يعد  يملك  شيئا غير  نفسه ، فقرر أن يضحي بها .. لا رغبة لديه في فعل أي شيء  بعد ما خسر  القضية..  نقلوه من قبوه إلى قبره.. وسط دهشة الجميع ..  
 " فالآن ارقد قرار العين ، لأنكم ستعرفونني جيدا "
***

(2) المسخوط والمسبحة
مافي قلبها وحده لم يتخل عنها أبدا ..
صوت جدي بعد رحيله ، مازال يملأ الأرجاء ، بقي بداخلها   صاخبا جدا .. لم يستطع أحد إخراجه أو استبداله منها .. أشد ما أوجعها إحساسها المؤلم بالوحدة وسط أبناء و حفدة لا يريد الإنصات  لشيء مما تثرثر به عن ماض اندثر ، كأنهم يؤكدون لها رغبتهم  الدفينة في عدم تقبلها بينهم .. المسخوط الوحيد الأوحد الذي يسمعها  جيدا دون إملال من ذكرياتها المستلبة ..تعلقت به كابن ولدته من روحها .. تحملها تحت شالها الكشميري وتعتز به  ، مولعة، مغرمة .. الملل المسعور في وحدتها  بلغ ذروة جنونه ..
سألتها ذات يوم : لم كل هذا الشغف بمسخوط ؟
اجابت باسترابة :  هدية الحبيب لاتفارق القلب ولا الخيال ولا الجسد ..
ناكدتها لأعرف حجم إحساسها العميق  :  لكنه صخرة  مهشمة !
حدجتني بنظرة استنكار  :  قيمتها يعرفها القلب .
 فأربدت ، و أجفلت ، ثم انصرفت ، أختبيء خلف باب الحجرة ، أصخي السمع .. سمعتها  تناجي جدي ، و تغالب الحزن   :
انت السبب ، تركتني ورحلت ، نقضت العهد  ، نسيت ما كنت تقوله " الشريف لايحنث بما وعد" و قد حنثت ، فبماذا أسميك ؟!
بملء  الألم :  انتبذتني الدنيا بعدك .. لم يبق لي سوي مسخوطك الذي ائتمنتني عليه ، كنت تتنبأ بما سيحدث لي بعدك .. عيناها مغرورقتان  بدمع حار ..
ستبقي في قلبي ما بقي مسخوطك ! لن يستغفلني النسيان المسموم  ..
موت الروح مقدمة لموت بقية الأعضاء .. لذلك أنا أحيا بالروح و إن شاخ مني الجسد..
يديها علي خدها  ، نهنهات توقظ الموتي .. صمت طويل لا يخترقه سوي ضجيج ذكريات ، حنت رأسها، تداعب المسخوط و حبات المسبحة !
رحل الأحبة .. ورحلوا حيث سكون كل شيء ..
لولا شعورنا بالفقد، لاشتهينا الحياة  و الحكايات ..  حدقت ملء عينيها كأنها تعوض مانقص من الحواس .. تضفي الخيال علي كل ما ورثته عن جدي ، استنسختهم بشرا من لحم ودم  .. بعدما يأست من ان تجد بيننا ما ينصت للأسرار ..
فرت من عينيها دمعة يتيمة عندما اقتحم حفيدها الصغير  حجرتها ، وحاول العبث بالمسخوط ..
همست في أذنه:
" يحافظ المسخوط علي حقه في أن يكون مختلفا عنا.. لكنه  في النهاية بشر مثلنا  من سلالة الطيبين"..

 

تعليق عبر الفيس بوك