دخول مملكة السّرد على جناح الشّعر:

سيف المرّي في "بيت العنكبوت" (2 -2)

...
...
...



أ.د. يوسف حطيني – أديب وأكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات

أشكال المفارقة:
يعرض الكاتب حكايات قصصه بطريقة تترجّح بين الغموض والوضوح، ولكن الغالب فيها غموض يرهق المتلقي، ويعتمد في بعض الأحيان على الحلم اعتماداً يجعل الحلم ذاته محرّكاً للحكاية، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "أحلام مهرّبة" وإلى قصة "قصر الياسمين"، الذي يتكرر فيه حلم البطل بتفاصيله، عن القصر وامتداد سوره وروعة بنيانه، وعن اللوحة الجدارية لحبيبته، لينتهي أخيراً إلى أن قصرها الحقيقي هو قلبه العاشق:
"فإن كان قد بناه لها لتسكن فيه، فإنّ مسكنها الذي لا تستبدل به قصور الأرض كلّها، مكان يتّسع للدنيا، ولكن لا مكان فيه لغيرها هي وحدها، فذلك بالنسبة إليها قصر الياسمين".
ويسعى القاص إلى استثمار المفارقات بأشكالها المختلفة، فيلجأ إلى المفارقات التي تعتمد على الموقف، والحدث، واللغة، ففي نهاية قصة "نفق الظلمة" يتجشّم السارد عناء السرد، بينما رفيقه في رحلته لا يسمع منه شيئاً، لأنه منشغل بمراقبة العنكبوت، وها هنا تقوم نهاية القصة بوظيفتن: الأولى صنع مفارقة الموقف، والثانية التقديم لحكايتين أخريين هما حكايتا (الدرجة المحرّمة وبيت العنكبوت) اللتان تشكّلان مع القصة الاولى متوالية قصصية:
"وبينما الولد مسترسل في حديثه الغريب، وقد وصلا إلى نهاية السرداب، نظر إليه، وقد خرجا وقال له: لقد سمعتك تقول لي كلاماً كثيراً، وأنا أتابع ببصري العنكبوت الكبير في نهاية النفق، ولكن أخبرني ماذا كنت تقول؟! فأنا لم أفهم من كلامك الكثير كلمة واحدة، ولكن انظرْ ألا ترى العنكبوت؟! انظر إلى حجمه الكبير.. فردّ عليه قائلاً: هل أخبرك عن بيت العنكبوت؟!"
وتصبح المفارقة في قصة "الخاتم والمصباح" حدثية، أي أن عمادها الحدث، فهي تحكي عن الساحر الذي يخدع السلطان، عن طريق خادم الخاتم، حتى يتمكن أخيراً من رمي السلطان وقصره في البحر، وتاتي النهاية على الشكل التالي: "وبدأ الساحر في حكم السلطنة بقبضة من حديد، وأول شيء منعه هو السحر والشعوذة؛ لأنه حرام "وكلام فاضي" لا يصدقه العقل".
على أنّ المفارقة الحدثية تصل في بعض الأحيان إلى حدّ الطرفة السطحية التي تسعى إلى إضحاك المتلقي، دون أن تمتلك عمقاً يمنحها جدارة الحكي، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "في ضيافة الهدهد"، حيث يدعو الهدهد عدداً هائلاً من الضيوف لمأدبة طعام على شاطئ البحر، ويتعجب الضيوف كيف سيصنع الطعام لهم جميعاً، حتى إنّ بعضهم كان متردداً في الحضور لولا يقينه أن سيدنا سليمان عليه السلام سوف يحضر، وتكون النهاية على الشكل التالي: "فحمل في منقاره جرادة من القياس الكبير ثم قصعها وألقاها في البحر، وقال لهم: تفضّلوا على الجرادة، ومن فاته اللحم فعليه بالمرق".
وهناك شكل آخر من أشكال المفارقة يلجأ إليه القاص، وهو المفارقة اللغوية، على نحو ما نجد في قصة "أمنية كلب"، حيث يلتقي الصديقان في طفولتهما ويتمنى أحدهما أن يصبح كلباً، على سبيل الدعابة، وحين يكبر تتحقق أمنيته رمزياً: "أحيا حياة الكلاب الضالة"، بينما يصبح صديقه محامياً، وفي النهاية يستخدم صديقه المحامي اللغة، ليدلّ على اندماجه في لعبة صديقه الكلب:
"ـ أنا صنعتُ من نفسي ما أنا عليه مع سبق الإصرار.
فيقول له صاحبه: بكلّ تأكيد أيّها (الصّديق الوفيّ)".
كما يستثمر الكاتب الثنائيات الضدّية على نحو لافت، فيقول في قصة "الدرجة المحرّمة" مثلاً: "وعليه أن يتدثّر الآن بغطاءين من نور وظلمة، وأن ينام على فراشين من ماء ونار"، وهو يدرك ما للتضاد من أثر في إحداث التوازن الكوني، فيقول في القصة ذاتها: "والحقيقة أبداً لا تكتمل إلا إذا اجتمعت في عناصرها جميع المتناقضات"، بينما يقول في قصة "أنياب": "ومن عجائب المقدّر أن يلتقي البدويّ حورية البحر، ويعيشا معاً كلّ هذا العمر من دون أن يختلفا أو يتقاطعا، على رغم ما بين الضدّين من تضاد، وبين طرفي النقيض من تباعد، فهل يا ترى هما، دون شعور منهما، يكمّلان بعضهما؟"
حول لغة السرد:
هناك ملامح لغة خاصة تمكن ملاحظتها في النصّ السردي لدى سيف المرّي، حيث كثافة حضور نص الآخر، واستثمار الإيقاع اللغوي، وتداخل الحواس، وإشراك القارئ. وتعد كثافة حضور نصّ الآخر في سرد المرّي من شواهد الثقافة الرفيعة التي يحسن توظيفها، وقد تنوعت هذه الثقافة بين تراثية ودينية وأدبية حديثة، إذ نقرأ له عبارات مثل: "ويتلُّهُ على وجهه" التي تحيل على قوله تعالى "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" (الصافّات: 103)، ونقرأ له: "وقبس من قبسه النورانيّ متبسّم، وللابتسام في العيون بريق يخطَف الأبصار"، وهو ما يحيل على قول العزيز الحكيم: "يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ" (البقرة: 20)، كما نقرأ له "والبئر المعطّلة تنبئ عن أمر عظيم"، وهو سياق يحيل على قوله تعالى: "فكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ" (سورة الحج: 45)، ونمثل أخيراً للإحالات القرآنية بقوله: "ووعد صديقه الأثير، دوناً عن صاحبه الأثيريّ أن يقطف له شجرة الصّبا اليانعة، وهو لا يعلم أنّ الثمرة من الشجرة المحرّمة"، وثمة ها هنا إحالتان تتجه الأولى إلى حكاية الخلق في القرآن الكريم، بينما تشير الثانية إلى حكاية جلجامش مع نبتة الخلود.
ويذكر هنا أن الإحالات إلى الأساطير لا تقف عند حدود جلجامش، إذ سبق أن أشرنا إلى الإفادة من أسطورة ميداس، ويمكن أن نشير هنا إلى قصة المؤنسة التي تبدأ على النحو التالي "رمى قلبه كيوبيد بالسهم الناري"، وكيوبيد كما هو معلوم في المثيولوجيا الرومانية هو ابن الإلهة فينوس، وكان شديد الجمال، وقد اشتهر بسهمه الذي يصيب البشر، فيسبب وقوعهم في الحب.
وقد أفاد الشاعر من سياقات شعرية عديدة، فأجاد في قصة "عناد" التي تحكي حكاية بطل يكتب بيده الشمال، ويسعى إلى أن يكون مختلفاً، بينما ينصحه من حوله بحكمة المعرّي: "فعاندْ من تطيق له عنادا"، بينما يوظف في قصة أخرى أبياتاً جميلة للشاعر المهجري اللبناني من قصيدة "ليالي بوسطن" يقول فيها:
آه لو يُغنـي خيـالٌ عن عيانِ ..... كان كالمنـهلِ رسمُ المنـهلِ
 ولعاش المرءُ في دنيا الأماني ..... يقطـعُ الدّنيـا ولـم ينتقـلِ
وسَلَـونا عن مكـان بمكـانِ ..... ولأغنـى  آخـر عـن أوّلِ
أمّا عن استخدام الإيقاع السردي، ونقصد فيه تكرار الكلمات أو التراكيب، أو جذورها، أو غير ذلك، فإننا نلاحظ فيها عناية تظهر البراعة، وتوهم بالبعد عن القصدية، ففي قصة "سطر أبيض وسطر أسود" يكرّر السارد تعبير "ذلك المنصرف" خمس مرات، بينما يضيف الكاتب في قصة "نواميس" ناموساً لغوياً لموضوع القصة، فيبدأ الفقرات الأربع التي يتألف منها النص بمشتق مرفوع، وهذا ما يمنح تلك الفقرات تشابهاً إيقاعياً، يظهر فيما يلي: "غارقة في بحر الخوف/ واهمة أنّ الحياة لون واحد فقط"/ دامية أسئلتها/ مذهولة بما تراه". وربما كان من الطريف أن يوظّف الكاتب الجذر اللغوي (ربط) ببراعة إيقاعية حكائية في قصة "شيء غريب"؛ إذ نقرأ سياقات متعددة تستثمر ذلك الجذر اللغوي، ونختار منها:
"علمته كيف يتعامل مع ربطة العنق وربطة الحذاء وكيف يربط المنبّه".
"وقبلها لم يكن يعرف كيف يربط شيئاً أبداً"
ولما ارتبط بها حاول الفكاك سنين طوالاً"
"وكان يتربّط لسانه أمام جمالها"
ولعل من الطريف أن يأتي الحلّ لغوياً، إذ يتم الطلاق بين الزوجين، حيث "لم تنفع معها كل الروابط التي انحلت رباطاً إثر رباط"، ويتوج ذلك بسياق لغوي نقيض للربط، على سبيل المفارقة اللغوية: "الروابط مهما كانت قوية فإن هناك قوة ما قادرة على أن تفكّها عقدة إثر عقدة".
وكثيراً ما يلجأ الكاتب إلى استخدام لغة تستثمر التداخل بين الحواس المختلفة على مذهب بشار بن برد وبودلير، ويبدو ذلك بأوضح صوره في قصة "أحلام مهربة"؛ إذ نقرأ عن أثمان الأحلام فيما يلي:
الحلم الوردي للفتاة التي غاب عنها حبيبها: "دفعت حتى الآن مليون دمعة، لأحضر لها هذا الحلم"، وحلم الطفل بحصوله على درّاجة دفع مقابله "ابتسامة بحجم الدنيا ليحصل عليه"، حلم السيدة التي مات زوجها بالقدرة على تربية أطفالها: دفعت ثمناً له "خمساً وعشرين سنة من شبابها عدّاً ونقداً".
بقي أن نشير إلى أنّ المري يدخل القارئ في أتون العمل السردي، ويحاوره، على نحو ما نجد في قصة "عناد" التي ينهيها على الشكل التالي:
"وأصدقكم القول بأنه لو سمع كلام أستاذه ، وكتب باليمين، وعلى السطر، لو أنه سمع فقط كلام الأستاذ لكان الآن في وضع يحسده عليه الناس، ولكن ماذا يمكنك أن تصنع مع شخص عجنت طينته بالعناد. إنّ كل ما تستطيعه هو أن تتنفس الصعداء شاكراً الله على أنك لست مثله".

 

تعليق عبر الفيس بوك