عبد الله العليان
الحديث عن التَّطرف ومخاطره وآثاره في وقتنا الراهن حول العالم، لا يزال قائمًا ومستمراً، وكلما خفت لفترة من الزمن في مكان ما، يظهر هذا التطرف بنفس الأفكار، والمُمارسات في أماكن أخرى، فلم يتم الحفر والغوص في الأسباب التي جعلت هذا التطرف، يتوسع ويستمر لعقود طويلة دون إيجاد مخرج لإيقاف هذا العنف في عصرنا الراهن.
ويبدو أنَّ المواجهة العسكرية التي تتصدى لهذا التطرف، لم تهتم كثيراً بمسألة مواجهة هؤلاء الشباب في اختيار هذه الوسائل العنيفة في التمرد والرفض، وكيفية البحث الدقيق لهذا التوجه الفكري الغريب والتطرف المستشري في بقاع كثيرة، وهذه الطرق والوسائل تقترب من الانتحار دون التفكير في هذا الفعل الغريب، ذلك أنَّ الخسارة في المواجهة من الدولة المركزية حاصلة فعلاً، سواء كان التطرف دينياً، أو سياسياً، أو عسكرياً، أو اقتصادياً، وهذا بلا شك أراه من الأخطاء الكبيرة التي تركت مواجهة الأفكار المُتطرفة بوسائل بحثية واستقصائية للعنف والتطرف، واتجهت للحلول العسكرية وحدها، دون أن تتوازي مع الحلول الفكرية والاستقصائية لهذه الأفعال.
ويناقش الكاتب والمفكر البحريني د. علي فخري هذه القضية في بعض كتاباته، بزاوية أوسع مما يطرحه أو يحدده البعض في مسألة ظهور التطرف وتوسعه في العديد من الدول، أو أريد له أن يتوسع ـ كما تقول بعض التحليلات، ويقول د/ علي فخري:" إنَّ علماء الاجتماع يختلفون حول أسباب هذه الظاهرة المركبة: فعند الفرد قد تعبر هذه الظاهرة عن مرض نفسي أو حتى عقلي، وعند الجماعات هي في الغالب عبارة عن رد فعل عاطفي طاغٍ، بسبب ما ملئ بالظلم أو الاستغلال أو امتهان الكرامة (:)، إن الدولة تبتلع مجتمعاتها في جوفها، وتقمع مكونات تلك المجتمعات في عوالم السياسة والاقتصاد والثقافة وتقوم علاقتها مع قوى تلك المجتمعات، من خلال الخوف المتبادل والتطاحن الذي يهدأ، إن هذه الدولة ليست مهيأة لإعطاء دروس في التسامح".
ولاشك أنَّ هذه الممارسات التي تحدث عنها د. علي فخرو، هي نتيجة منطقية، لتفشي التطرف والإرهاب والغلو، الذي يجتاح الكثير من الدول، ويعني أن هذا التطرف، وهو نتيجة وليس سبباً، والأسباب التي أشار إليها د.علي فخرو، لجديرة بالمراجعة والاهتمام من أصحاب القرار الأهم، صحيح أن أسباب التطرف ليست على شاكلة واحدة، فهناك أسباب اجتماعية، وهناك أسباب سياسية، وهناك أسباب اقتصادية وأسباب أسرية، وكل هذه العوامل مجتمعة، تفرخ وتفرز هذه الأفكار المتطرفة، وقد تلتقي مع دافعية الأفكار العنيفة، والخطورة في هذه القضية التي تؤرق الكثير من دول العالم اليوم، والإشكالية أن هذه الأفكار تظهر وتختفي بين الحين والآخر، بمُسميات عديدة، ثم تعود أحياناً بأقوى مما كانت عليه في المرات والفترات السابقة، وهذه المشكلة تكمن أسبابها في غياب المُعالجة الدقيقة والصحيحة لمسألة التطرف، والتوقف عند المعالجة الأمنية والعسكرية وحدهما.
بعد أزمة الأسعار على المحروقات والضرائب في فرنسا، كانت هناك ممارسات عنفية، وهو بلا شك تطرف بمعايير تقييم هذه الممارسات، لكن السلطات الفرنسية، تعاملت برؤية حصيفة مع هذه المظاهرات، وتمت معالجات مقبولة ومعقولة في هذا البلد الأوروبي الذي له تاريخ كبير في الثورات، تلو الثورات من عدة قرون، وحققت هذه السياسة الهادئة نجاحاً في التعامل، ولم تتبع الكثير من وسائل العنف مع هؤلاء الشباب الذين دفعهم الغضب إلى أعمال مخالفة للقانون، واستطاعت فرنسا أن تخرج بأقل الخسائر. وهذه الرؤية العقلانية جديرة بالاهتمام، وقد ساهمت في توقف الاحتقان والتوتر والغضب الذي يجر إلى التطرف والتشدد والعنف، نعم تستطيع الدول بقدراتها وإمكانياتها العسكرية والإعلامية، أن تنهي الأعمال الإرهابية بقوة السلاح، وهذا حصل في العديد من الدول، لكن هل انتهى هذا التطرف واختفى تماماً؟ لا أبداً ظهر مرة أخرى، يطرق وسائل وأماكن أخرى، القضية الأهم كيف نعالج هذا الفكر المتشدد الذي يستخدم الفعل للتعبير عن نفسه، أو لمطالب وحاجات مختلفة، فما ذكره المفكر د. علي فخرو حول قضية التطرف، طرح يحتاج إلى إعادة النظر في مقولاته، حول أسباب هذا التطرف، وحتى في بعض الدول الغربية التي ظهر فيها التطرف من خلال عمليات تفجيرية عديدة، بعض أسبابها أيضاً وجود الكثير من العرب في حواشي وأطراف المدن الكبيرة، وهؤلاء يعيشون في ظروف اجتماعية صعبة، وتلك التجمعات، وجدت مرتعاً للأفكار المتطرفة والعنيفة، بالغرب لأن بعضهم ولد وعاش في الغرب وتعلم هناك، فالنزعة المتطرفة لها أسباب عديدة، وقد طالب بعض المفكرين الغربيين بالنظرة العادلة للمهاجرين، وضرورة أن يعيشوا حياة كريمة في تلك الأماكن، ولا يجب أن تترك للقوة وحدها كمُعالجة، وهذه بلا شك رؤية حصيفة وواقعية.
القضية تحتاج لمعالجة تربوية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، والتوقف كثيراً عند الأسباب الأساسية للتطرف، ويجب أن تُعالج كل ظاهرة لوحدها، حتى تتم النظرة الواسعة لقضية التطرف، بعيداً عن اختزال هذه الإشكالية في هزيمة هذا التطرف، صحيح أنَّ هزيمته واقعة، لكن هل انتهت هذه الأفكار؟! وهذا هو مربط الفرس، كما تقول بعض الأمثال العربية، فالحل فالاهتمام بقضية الفكر والبحث عن جذور وخفايا التطرف في بعض مجتمعاتنا العربية؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر العلاج الشافي.