إعلان وفاة "الشرق الأوسط الجديد" في وارسو


علي بن مسعود المعشني
 

ونحنُ على بُعد أيام عن مُؤتمر وارسو والذي ترعاه أمريكا وجيَّشت له عدداً من الحلفاء والأتباع بقصد ترتيب أوراقهم للخطة (ب) من إستراتيجيتهم في المنطقة العربية والمسماة وفق التوصيف الاستعماري الغربي بـ"الشرق الأوسط " بقصد نزع العروبة عنها وإدماج غير العرب وغير المسلمين فيها كإيران وباكستان والكيان الصهيوني. لابد لنا من تتبع حلقات الأحلاف الغربية في المنطقة وتواريخها ومسمياتها ودلالة وارسو في الوجدان الغربي وأدبيات الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي. كما لابد لنا من فك بعض شيفرات المواقف والأحداث المتسارعة في المنطقة وعلى رأسها الحلقات الأخيرة من مسلسل الأزمة بسوريا، ودلالات خروج أمريكا من المشهد العسكري في المنطقة، وحقيقة وجهوزية تصدي تركيا وسعيها لملأ الفراغ الناجم عن انسحاب حليفتها أمريكا، وتفسير الضربات الصاروخية الصهيونية الخاطفة والمتكررة على دمشق، ومغزى تفسير وارسو لحقيقة الاجتماع ووصفه بالمؤتمر الباحث عن السلام في المنطقة، وفي الأخير مدى جهوزية حلف المقاومة وموقعهم في خارطة التموضع الأخير للاعبين في المنطقة ودورهم الوازن في رسم ملامح مستقبل المنطقة وتقرير مصيرها. الحقيقة التي لايُمكن القفز عليها أو تجاوزها هي أن الغرب ومنذ حلف بغداد عام 1955م، والذي أقترحته أمريكا ورعته بريطانيا ليضم إلى جانبها كل من تركيا والعراق وإيران وباكستان وهم يسعون بكل قواهم ويرمون بكل ثقلهم لتمكين الكيان الصهيوني وحمايته والقبول به كسيد ووجيه في المنطقة وقوة عسكرية واقتصادية متفردة وكأمر واقع يوازي القضاء والقدر الذي لامهرب منه ولا راد له. وأن تكون جميع الأقطار من حوله من عربية وأعجمية رهن إشارته وطوع بنانه وتروس في عجلات اقتصاده وتوابع لأوامره ونواهيه.
لهذا تشكل حلف بغداد بعنوان بعيد وبراق وهو مقاومة المد والنفوذ الشيوعي في الشرق الأوسط وبسلوكات على الأرض تمثلت في محاولات تقليص المد العروبي القومي الناصري وحصاره في جغرافية مصر، واستخلافه ومحاربته بقوة ناعمة وألحن وهي الوحدة الإسلامية عبر رعاية وتشجيع ودعم أداتهم في المنطقة والمتمثلة في تنظيم الأخوان المسلمين ببعديه الجغرافي الحاضن والمؤسس المصري والعالمي والمتمثل في التنظيم الدولي.
لم يهنأ حلف بغداد بتشكيله فسرعان مانخرته الانشقاقات وناله التصدع والتشظي منذ ولادته وعلى قاعدة "ما بُني على باطل فهو باطل" فسرعان ما أعلن العراق الجمهوري عام 1958م، عن خروجه من الحلف وتلته باكستان بعد اتهامها الحلف بخذلانها في مطالبتها بإقليم كشمير وسبق ذلك العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م ومشاركة بريطانيا الفاعلة فيه، ثم جرى اجتياح تركيا لجزيرة قبرص عام 1974م وتجميد عضويتها في الحلف لتأتي الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، لتطلق رصاصة الرحمة على الحلف ولتجبر بريطانيا على الإعلان رسميًا عن إلغائه في ذات عام الثورة.
ولد من رحم مؤشرات فشل حلف بغداد واستباقًا لسقوطه حلف آخر مُصغر ولذات الأهداف ولكنه حمل اسم مبدأ نيكسون أو مبدأ غوام وكان ذلك عام 1969م، وتشكل من كل من إيران الشاه والكيان الصهيوني فقط، وسبب المبدأ المذكور هو انحسار أمريكا بعد مُغامرة حرب فيتنام وهزيمتها النكراء وإصابتها بأعراض عجز القوة فكان البديل هو مبدأ نيكسون لملأ الفراغ الأمريكي ورعاية مصالحها في المنطقة مقابل تكفل أمريكا بتقديم كل الدعومات السياسية والعسكرية والاقتصادية للحليفين للقيام بمهمتهما على الوجه الأمثل.
لم يهنأ الغرب بمبدأ نيكسون لحماية كيانه المحتل طويلاً فقد أتت الرياح بما لا تشتهي سفنهم حين استفاق العالم على هدير الثورة في إيران والسقوط المدوي للشاه ونظامه وكان الغرب حينها قد فرغ من تكبيل مصر باتفاقية كامب ديفيد والتي لم يجف حبر توقيعها بعد، وكانت ولادة الثورة الإيرانية على أسماعهم كوقع الصاعقة في رسالة واضحة بأنَّ لله مشيئة وإرادة تفوق إرادة أمريكا. وكانت كامب ديفيد بالنسبة للغرب هي الصيد الثمين وجوهرة أحلافهم وتاج انتصاراتهم لحماية كيانهم الغاصب وتمكينه من أرض فلسطين العربية وإجبار العرب على القبول بإكراهات الواقع. لجأ الغرب بعد كامب ديفيد إلى نهج الحروب الدينية والحروب بالوكالة والإيقاع بالأقطار العربية الحيوية والتي تشكل تهديدًا مباشرًا على الكيان الصهيوني، وكان الخيار على العراق أولًا لشق جغرافية المقاومة والتفرد بأقطابها الوازنة إيران وسوريا بعد سقوط العراق وصولًا إلى تقليم أظافر فصائل المقاومة في لبنان وغزة. الغرب في كثير من الأحيان لا يُخطط بل يحلم ويتمنى ويصدق تلك الأخيلة المريضة ويتعامل معها على أنها واقع ملموس، لهذا خضع لغطرسته تلك ونرجسيته التاريخية وأرسل كولن باول إلى دمشق بعيد الإجهاز على بغداد حاملا قائمة بأحلامهم، فكان الرد السوري الإيراني هو إشعال الحرائق تحت أقدام المحتل واستنزافه وإجهاده في العراق عبر دعم المقاومة العراقية والمتطوعين العرب وعبر العمليات الاستخباراتية النوعية والتي يتقنها النظامان الحليفان السوري والإيراني مستغلين الخزين البشري العراقي الهائل من عناصر الجيش العراقي والاستخبارات العراقية والتي سرحها وطعنها في صميم كرامتها بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي بعد الاحتلال.
لم يعترف الأمريكان وأعوانهم بمستنقع العراق إلا بعد أن غُلبت الروم وبلغت الحلقوم رغم كل التوصيات من قبل العقلاء لهم بضرورة الانسحاب والاعتراف بالهزيمة ومنذ العام الثاني للاحتلال، ولكنها المكابرة والنرجسية الأمريكية وسطوة لوبيات المال والسلاح والنفط بضرورة إطالة عمر الاحتلال للتنكيل بثروات العراق الطبيعية والبشرية وتفريغ ذاكرته الجمعية والتاريخية والإجهاز عليهما.
طريقة انسحاب أمريكا من العراق عام 2011م، وعجزها عن تمرير معاهدة مع العراق واكتفائها باتفاقية يتيمة رغم كل مظاهر النفوذ والاختراق، وصولًا إلى تسلل ترامب للعراق خلسة ورفض الحكومة العراقية استقباله ورفضها قبل ذلك أن تكون طرفًا في حصار إيران وفق الرغبة الأمريكية وتنسيقها التام مع المؤسسات الحرجة بسوريا بشأن مكافحة فلول الإرهابيين في البلدين، يتولد لدينا وبالنتيجة أن العراق اليوم ليس عراق الاحتلال ولا العراق الذي يُدار من المنطقة الخضراء أو عبر البحار، فتلك المواقف القوية والمعبرة عن سيادة العراق اليوم والتي تخالف الخيارات الإستراتيجية الأمريكية تعني أن السيد الأمريكي في أوهن حالاته وسيطرته وتعني أنَّ العراق المقاوم قد شبَّ وأينع وأن خط المقاومة سيمتد من دمشق وصولًا إلى كابول عن قريب وأنه مفتوح لاستقبال المزيد.
أن يسلم السيد الأمريكي فراغه للحليف التركي الجريح لا يعني تبادل أدوار بل إن أعور يستنجد بأعمى، فالحليف التركي قد تمَّ تطويعه بالشراكة التجارية مع طهران وبالشراكة العسكرية مع موسكو وبمنطق إكراهات الواقع وبرجماتية أردوغان فستخضع أنقرة للعصا والجزرة وستبلع عنترياتها السابقة وستقبل بعصفور من يد الجوار خير من عشرة على لسان واشنطن.
وارسو المغلوب على أمرها تحاول أن تخرج من كماشة واشنطن وتخفف من مخاوف وقلق إيران ودول المنطقة بوصفها التجمع بأنَّه مؤتمر للبحث عن السلام في المنطقة وليس تحالفا موجها ضد أحد، أما الكيان الصهيوني فيذكر العالم بوجوده في المنطقة عبر عمليات صاروخية بائسة أشبه بالقرصنة بعد أن أيقن أنه أضعف من أن يخوض حرباً وأبعد ما يكون عن السلام في ظل انتصار سوريا وجهوزية المقاومة بالعتاد النوعي والخبرات الميدانية، فلجأ إلى حفر المتاريس وبناء الجُدر حول منطقة الجليل بفلسطين المحتلة تحسبًا لوعد صادق مباغت من حزب الله وأصبحت جميع مناوراته العسكرية تُحاكي الدفاع عن الجليل بعد أن كانت فيما مضى تحاكي احتلال قرى في جنوب لبنان.
قبل اللقاء: الغرب شغوف بالرمزيات والدلالات في كل شيء ورمزية وارسو في أدبياته اليوم هي رمزيتها في زمن الحرب الباردة حين كانت معقلًا لحلف المعسكر الشرقي المواجه للغرب، وكما مرر علينا ربيع العرب وهو في الأساس ربيع براغ فإنه يرغب في تمرير حلف وارسو بنسخة غربية هذه المرة حتى وإن كانت حبرا على ورق ولقاءات بروتوكولية للتضامن والمواساة وجبر الضرر النفسي كحلف بغداد ومبدأ غوام وكامب ديفيد ومؤتمرات أصدقاء سوريا.
وبالشكر تدوم النعم