د. صالح الفهدي
في مستهلّ إلقائي لمحاضرةٍ بعنوان "المستقبل يبدأ الآن" للمعلمين الجدد، سألتهم سؤالا لا أعتقد أنَّهم فكّروا فيه، ولربما كان السؤال لافتا للكليّة ذاتها، والسؤال هو: هل تدركون لأيّة سنة تعدّكم هذه الكليَّة؟ هل تعدكم لعام 2024، وهو العام الذي تتخرّجون فيه، لتنضمّوا إلى سلك التعليم، أم أنَّها تعدّكم – أو يفترض بها- لعام 2050.. ؟!! ثم إنني عرضت به السيناريوهات المتصوَّرة لعام 2050م في القطاع اللوجستي من إعداد إحدى الشركات العالمية الرائدة في هذا القطاع.
لقد سألت ذلكم السؤال لأنني أدرك أن الجيل الذي سيتولى أولئك المعلّمون تعليمه سيحتاج إلى ربع قرنٍ من الزَّمان حتى يواجه الحياة على واقعها بعد أن يكون قد أنتهى تعليمه المدرسي والجامعي، وهو ما يعني أنه قد وصل إلى أعتاب العام 2050م..! وما لم يضع كل معلّمٍ من الذين سألتهم في مخيّلته هذه الصورة المستقبلية فلن يقدّم جديدا يضيفه إلى عقلية الطالب الذي يتلقَّى العلم منه...!
الفكرة تتلخَّص هنا في طريقة التفكير: هل نعيش وننفق لمأكلنا من أجل يومنا وحسب؟ أم نفكّر في المستقبل بعقليةٍ بصيرةٍ تستطيع من خلال قراءاتها وتنبوءاتها أن ترسم صورا مقاربة للمستقبل عام 2050م.
يقول جاك آتالي في مقدّمة كتابه "قصة موجزة عن المستقبل": "يتقرَّر اليوم ما سيكون عليه العام 2050، كما يجري الإعداد لما سيكون عليه عام 2100، وبحسب النهج الذي سننهجه سيتحدد ما إذا كان أطفالنا وأحفادنا سيعيشون بعالم قابل للحياة أم سيعانون جحيما مقيتا، ولكي نترك لهم كوكبا يمكن الحياة فيه علينا أن نتحمَّل مشقَّة التفكير بالمستقبل، وأن نفهم ما مصادره وكيف نتعامل معه، وهذا أمر ميسور، فالتاريخ يخضع لقوانين تسمح بالتنبؤ به وتوجيهه".
الأمر منوطٌ بطريقة تفكيرنا اليوم، والسؤال هو: هل نريد أن نشقَّ بحرا لم نألف الإبحار فيه من قبل بذات السفن التي نملكها اليوم؟ بمعنى: هل يمكن أن نخطو نحو المستقبل بما نملك من أفكار اليوم وتصوراته، أم أنَّ علينا الإستعداد بفهم ما يحدث من حولنا، وما نحتاج له من عقليات ومهارات.
إنّ المتنبئين من مفكري علم المستقبليات ليضعوا بين أيادينا صورة للعقليات والمهارات التي نحتاج لها لأجل رؤيةٍ مستقبلية فاعلة، فعلى سبيل المثال يورد هوارد غاردنر مؤلف كتاب"خمسة عقول لأجل المستقبل" خمسة عقول يحتاج لها الإنسان في مواجهة المتغيرات المستقبلية وهي: العقل المتخصص، العقل التركيبي، العقل الإبداعي، العقل المحترم، العقل الأخلاقي، يقول المؤلف:"العقول التي أتولَّى تصويرها هي أيضا تلك التي أعتقد أنه يجب علينا أن نعمل على تطويرها".
ولم تأتِ هذه التصورات للعقول وفقا لهوى المؤلّف ولكن استقراء للمستقبل، وما يحتاجه هذا المستقبل من وجود نوعياتٍ محدَّدةٍ من العقول، تستطيع أن تستوعب التطورات، والمستجدات المتلاحقة، وهي عقولٌ تراوحت بين المهنية الصّرفة إلى الأخلاقية النقيَّة، مما يخلق تشكيلة متوازنة تطمئن الإنسانَ في تصوراته للمستقبل.
أمَّا عن المهارات فإنَّ الكثير من الدراسات قد أجمعت على مهارات يمكن ذكر ثمانٍ تأتي في صدارتها هي: القيادة، ريادة الأعمال، المواطنة العالمية، حل المشاكل، العمل الجماعي، الذكاء العاطفي، التواصل، محو الأمية الرقمية.
إنَّ أيَّة رؤية مستقبليةٍ تتوخَّى النجاحَ والفاعلية، وتتمتع بالمرونة والانفتاح لا غنى عنها عن بناء تلك العقول الخمسة لتنتج المهارات الثمان، وهذا لا يتم إلاَّ وفق برامجَ وطنية تعمل في إحداث التغيير على مختلف المؤسسات التعليمية، الاجتماعية، الدينية، الاقتصادية وغيرها من المؤسسات التي عليها هي الأخرى العمل وفق منظومة متكاملة، مترابطة.
وإذا كانت رؤية المستقبل تبنى وفق قراءات، فإنّها تحتاج إلى عقليات معيَّنة قادرة على تحديد المساقات التي تسير عليها، فتحقق بها الأهداف المتوخَّاة، وتصل بها إلى النتائج المرسومة، وهو عملٌ ليس بالهيّن إذ أنه يحتاج إلى مؤسسة تقود هذا التغيير الكبير، وتتمتع بصلاحيات واسعةٍ، وقدراتٍ نافذةٍ على رسم السياسات، وتحديد المسارات، ومراقبة التقدم.