2040.. المستقبل الآن

حاتم الطائي

◄ بلادنا ماضية على نهج التطور والتقدم وفق أحدث العلوم وأنجع الأساليب برؤية استراتيجية شاملة هي الأضخم على الإطلاق

 

◄ القاعدة الذهبية الأولى في بناء هذه الرؤية أنّها أشركت مختلف فئات المجتمع في صياغتها وترجمة تطلعاتهم إلى خطط

 

◄ نمر الآن بمرحلة تضافر الجهود التي تتطلب مشاركة الجميع لتحويل هذه الرؤية إلى واقع حي يقودنا نحو مستقبل أكثر ازدهارا

 

 

 

 

علم المستقبليات أحد أكثر العلوم الإنسانية نشأة وتطورا، ويرتكز في أساسه على آليات استشراف المستقبل وفق أسس علمية ورؤى موضوعية تصيغ العديد من السيناريوهات المحتملة، لكنها تبني على الحاضر الواقعي وتستند إلى مجموعة من الأهداف الطموحة التي تنظر إلى الغد بعين ملؤها التحدي والإصرار على تحقيق الأمل.. أمل المستقبل.

والرؤية المستقبلية "عمان 2040"، تجسيد حقيقي لهذا العلم، وتؤكد أن بلادنا ماضية على نهج التطور والتقدم وفق أحدث العلوم وأنجع الأساليب والطرق، فهذه الرؤية الاستراتيجية الشاملة تعد الأضخم على الإطلاق، منذ بزوغ فجر النهضة المباركة، وتضع 13 أولوية تبدأ من التعليم، مع المرور على أولويات بناء القدرات الوطنية وتعزيز البحث العلمي والمواطنة وسوق العمل والتشغيل، فيما تنتهي بحوكمة الجهاز الحكومي والموارد والمشاريع. وهذه الأولويات تمثل الملامح العامة التي تستهدفها الرؤية وتأمل أن تحقق من خلالها ما نصبو إليه جميعا من تقدم ورقي في شتى المجالات.

هذه الأولويات الوطنية تضع في نهاية المسار أهدافا تبعث على الفخر وتعزز الإيمان بقدرتنا على بلوغها، فالوصول إلى منظومة تعليمية شاملة ومستدامة وعملية بحث علمي تواكب التقدم من حولنا، ستصل بنا إلى مجتمع معرفي يمتلك القدرات الوطنية التي تؤهله إلى منافسة الأمم والمجتمعات الأخرى، من حيث الاقتصاد أو التعليم أو الفنون أو الرياضة. كما إنّ بناء نظام صحي رائد وفق معايير عالمية، من شأنه أن يجعل أبناءنا وأحفادنا ينعمون بصحة مستدامة تساعدهم على الإسهام في بناء الوطن. والملفت في هذه الأولويات أنّها متصلة ببعضها البعض، فلا يمكن تحقيق أولوية معينة بشكل منفصل عن أولوية أخرى، فمثلا أولوية التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية لن تتحقق إلا من خلال مجموعة الأولويات الأخرى، فالاقتصاد المستدام القائم على المعرفة والابتكار يتطلب تعزيز سبل البحث العلمي وبناء نظام تعليمي متين، وهما من الأولويات السابق ذكرها.

وآلية صياغة هذه الرؤية- منذ صدور الأوامر السامية في نهاية ديسمبر 2013، وحتى اليوم مع انطلاق "المؤتمر الوطني لرؤية عمان 2040"- مرت بالعديد من المراحل التحضيرية والإعدادية، كلها عكست حجم الجهد المبذول كي تتم صياغة رؤية مستقبلية شاملة تستوعب مختلف التغيرات وتتعاطى مع التسارع التكنولوجي بأدوات منهجية فاعلة. ولذا كانت القاعدة الأولى والذهبية لبناء هذه الرؤية إشراك مختلف فئات المجتمع في صياغة ماهية الرؤية وترجمة تطلعاتهم وأفكارهم إلى بنود وخطط قابلة للتطبيق في هذه الرؤية. وربما تكون هذه المرة الأولى التي يتم فيها إشراك جميع فئات المجتمع، عبر ما اصطلح على تسميته "المبادرات الاتصالية" حيث اشتركت فيها جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والرياضية والسياسية، بجانب شرائح واسعة من المواطنين، من مختلف الولايات، وأيضا مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، وأساتذة الجامعات والمثقفون والكُتاب وصناع الرأي. كلهم شاركوا في صياغة الرؤية ووضعوا لها المحددات واقترحوا الأفكار التي تضمن الوصول إلى عام 2040 والسلطنة في أفضل وضع، وتتبوأ أعلى المراتب، من حيث التنمية والتنافسية والنمو الاقتصادي والمكانة الدولية.

الجانب الآخر الذي يشكل إطار هذه الرؤية وهيأتها تلك المحاور والمرتكزات التي تستند عليها الرؤية، وهي 3 محاور رئيسية: الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، والحوكمة والأداء المؤسسي. والملاحظ من هذه المحاور أنّها جاءت جامعة لمختلف التوجهات التنموية والتطويرية، وجميعها يصب في صالح التأسيس لمرحلة مغايرة من العمل في مسيرة النهضة المباركة، مرحلة تبني على ما تحقق من منجزات على مدى 4 عقود، وتستفيد مما وصلت إليه بلادنا من تقدم في الكثير من المجالات، والأهم في كل ذلك أنها تتحقق بأيد عمانية، تلك السواعد الوطنية التي تؤمن بدورها الفعّال في بناء مستقبل هذا الوطن، وتسخر طاقاتها لأجل إنجاز مضامين هذه الرؤية، ومواجهة أي تحدٍ يقف في وجه تحقيقها.

لكن ثمة تساؤل يطرحه المجتمع في الوقت الحالي ألا وهو: ما الذي يميز بين رؤية عمان 2020 وتلك الرؤية الجديدة "رؤية 2040"، على الرغم من أن رؤية 2020 والتي أوشكت على الانتهاء لم تحقق جميع ما كانت تصبو إليه من تطلعات، بل إنها لم تستطع بلوغ نسب متوسطة في عدد من المجالات؟!

الإجابة عن هذا السؤال المحوري والهام جدا- برأيي- يمكن الوصول إليها عبر منظورين أساسيين؛ الأول أنّ رؤية 2020 صيغت ووضعت في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ولم يكن العالم أو السلطنة وقتها على دراية بما سيحدث من متغيرات هائلة على المستوى التقني والمعرفي والاجتماعي، بل سارت التوقعات في اتجاه بعُد تدريجيا عن المسار الذي وضعت عليه، فالثورة الصناعية الرابعة غيرت بل بدلت معالم الحياة في هذا العالم، وكانت أقصى التوقعات تتجه إلى سيطرة الروبوت على قطاعات أوسع من العمل، لكن ما حدث أنّ الروبوت بات هو المتحكم في الإنسان، واستطاعت تقنيات إنترنت الأشياء أن ترسم مسارا مغايرا عما كان يظنه العالم أجمع في نهاية القرن العشرين، نجح الذكاء الاصطناعي في أن يتفوق على الذكاء البشري، وباتت لوغاريتمات التسويق- مثل لوغاريتمات "فيسبوك" وإنستجرام"- أشد قدرة وفعالية من أي مدير تسويق ناجح في كبرى الشركات العالمية.. إذن هناك تغير جوهري عميق اجتاح العالم مع مطلع الألفية الثالثة، وكان المفترض أن تتحلى نظريات التنمية وخطط التقدم بالمرونة الكافية لضمان مواكبة مثل هذه المتغيرات الهائلة.

وهذا يقودنا إلى المنظور الثاني من المقارنة بين 2020 و2040، فالرؤية الأولى (2020) لم تتحل بالمرونة الكافية التي تتيح إمكانية تغيير الخطط والاستراتيجيات، بل بكل وضوح أقولها إننا لم نواكب بالسرعة المطلوبة المتغيرات التقنية والمعرفية، ولم نطبق كل ما كنا نطمح إليه في فترة التسعينيات من حيث التنويع الاقتصادي بسبب التقلبات الاقتصادية التي عصفت بالعالم وتأثرنا بها حتما، لاسيما في بداية الألفية الثالثة من حروب وصراعات في منطقتنا، فضلا عن أزمة الرهن العقاري التي عصفت بأقوى البنوك الأمريكية والأوروبية، وقد تأثرت عملية التنمية في بلادنا بذلك كله، فلسنا في معزل عن العالم، بل نحن جزء أصيل منه. كما لم نتمكن من مواكبة مسارات وبرامج التعليم لمتغيرات سوق العمل، وباتت تلك الفترة أشبه بمرحلة التجارب في الكثير من القطاعات، دون رؤية تنموية واضحة المعالم لها فلسفتها وغاياتها المعروفة. لكن في المقابل، وبفضل التطورات المتسارعة في أداء مؤسسات الدولة، نجحنا في وضع أقدامنا على طرق هذا التطور التقني والمعرفي، واستطعنا أيضا أن نتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية، وخير دليل على ذلك ما حدث خلال السنوات الأربع الأخيرة، والتي مثلت فترة عصيبة من الناحية الاقتصادية، وانعكاس ذلك على الأوضاع الاجتماعية، وتباطؤ الأنشطة الاقتصادية. فمن كان يتوقع أننا سنتمكن من مواصلة عملية التنمية في ظل التراجع الشديد في أسعار النفط، والتي وصلت خلال السنوات القليلة الماضية إلى مستوى 25 دولارا أو أقل؟ غير أنّ الواقع برهن قدرتنا على تحدي الصعاب والتحول نحو نموذج ترشيدي أكثر ملاءمة للتعامل مع الموارد المالية المنخفضة. وفي المقابل، نجح المواطن العماني أن يؤكد أيضا أنّه على قدر المسؤولية، وأنه يشارك الحكومة في مجابهة الصعاب وتجاوز الأزمات، فتعاطى المواطن مع تحرير سعر الوقود وارتفاع بعض أسعار الخدمات وزيادة الرسوم، من منطلق وطني، لأنه يدرك جيدا أنّ الأمر يصب في صالح الوطن ومستقبل الأجيال القادمة.

أمّا في "رؤية 2040" فقد تعلمنا من دروس الماضي، وبتنا أكثر وعيا وقدرة على التخطيط المستقبلي برؤية استشرافية تضع سيناريوهات تعمل على تفادي أية انتكاسات أو تراجعات في سيرورة التطبيق الفعلي للخطط والأهداف والبرامج المستقبلية. الرؤية المستقبلية الجديدة تتحلى بالمرونة المطلوبة التي يمكن من خلالها تعديل آليات العمل، ووضع برامج بديلة تضمن تنفيذ الأهداف المتفق عليها، علاوة على معالجة أي خلل يصاحب عملية التنفيذ، ويضمن تفادي التحديات أو على أقل تقدير التأقلم معها، وبمشاركة المواطن، في ظل دولة المؤسسات والقانون.

وختامًا. إننا مع بدء العد التنازلي لتطبيق "رؤية عمان 2040"، نؤمن أن القرار السياسي الفاعل سيكون هو الحاسم في ترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع، بجانب الإصرار المجتمعي على تنفيذ هذه الرؤية، في مرحلة نسميها "مرحلة تضافر الجهود" التي تتطلب مشاركة الجميع، بما يكفل تحويل هذه الرؤية الطموحة إلى واقع حي يقودنا إلى مستقبل أكثر ازدهارا تنعم به الأجيال القادمة.