خمول الذهن العربي 2-2

 

عبيدلي العبيدلي

النفي المطلق للآخر، والإصرار المتواصل على استئصال جذوره الفكرية، التي ربما تبدو "غير منسجمة مع تلك التي ينتمي الواحد منا  لها،  متى ما "سولت" له نفسه الإفصاح الصادق الصريح والمباشر أو حتى غير المباشر، عن شكل من أشكال الاختلاف. والنفي، وهنا موطن الخلل، لا يقف عند المصادرة الفكرية لما يدعو له هذا الآخر، بل يتجاوز ذلك كي يصل إلى مستوى النفي الجسدي أيضا، عندما يفشل "الإخصاء" الفكري. وعندما يتراكم هذا النفي ينتقل من مجرد حوادث متفرقة مبعثرة إلى منظومة فكرية متكاملة تولد عقلا خاملا،  يفرز فكرا مترهلا في أذهان من يتوهم أنه يقود حركة فكرية مستنيرة ومبدعة في آن. مثل هذه المنظومة الفكرية العربية المترهلة والخاملة المنطلقة من بيئة نفي مطلق للآخر، ليس في وسعها أكثر من تغذية هذا الخمول الذي يأسر الفكر العربي ويحول دون إبداعه.

العداوة المستحكمة المتأصلة التي تحارب كل ما هو جديد، وعلى وجه الخصوص عندما يكون التجديد متصلا بالفكر. هذا يفسر حالة الحرب المستمرة بين حواضن الفكر العربي المعاصر، وما يعرف باسم الحداثة التي في أبسط تعريف لها، هي "فترة تاريخية وفنية امتدت منذ عام 1865م حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزامنت مع تقدم الصناعة والتكنولوجيا، بِحيث ظهرت كاستجابة لِلتقاليد والمعتقدات والأفكار الموروثة التي عرضها المفكرون العظماء؛ مثل:  الفيلسوف الألماني كارل ماركس، والفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، والعالم البريطاني تشارلز داروين، وبهذا أُعيد النظر في معتقدات قديمة سائدة لِمحاولة تغييرها، لذا فإنّ الحداثة.... ترتكز على العلم، والمنطق، والديمقراطية". أو كما ينقل البعض عن الفيلسوف رولان بارت، الذي يرى "الحداثة بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه، ومن خلاله تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة، وأشكالا غير مألوفة، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة، فيقف بعض الناس منبهرا بها، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها ، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها". وما لم يكف الفكر العربي أذاه عن التحولات التر جلبتها معها حركة الحداثة، فلم يستطيع أن يقطع حبل سرته الذي يربطه بالماضي، ومن ثم فسيبقى أسيرا لهذا الماضي، وغير قادر على التخلص من حالة الخمول التي تسيطر عليه.

ضياع الاجتهادات العربية المعاصرة الجادة النادرة في ثنايا مخرجات "الخمول" الفكري الضحلة. فتراجع تأثير دعوات مجتهدين من أمثال الكاتب المغربي محمد عابد الجابري، ومن قبله جلال العظم، مع اختلاف المدرسة التي ينتمي لها كل منهما بشكل مستقل، وسبقهما لذلك الشيخ محمد عبده، وأستاذه الشيخ جمال الدين الأفغاني، وينتمي لهذا التيار الإصلاحي المستنير، النافض عن عقله غبار "الخمول" خير الدين التونسي. شكّل هؤلاء في مجملهم كوكبة حملت رايات التنوير المنطلق من منظومة عربية إسلامية حررت عقلها من قيود خموله التي يرزح تحتها اليوم، لكنها لم تستطع أن تحمي نفسها من جراثيم العقل العربي الخامل التي زرع نفسه في ثناياها، وشن عليها حملات ممنهجة أضاعتها، وأطفأت مصابيحها لجة أمواج مخرجات تلك العقول الخاملة، التي ما تزال تأثيراتها السلبية تحجب عنا أشعة شموس تلك الكوكبة المستنيرة.

وبعد الإنصات إلى ما سرده ذلك الصديق، والذي يشكل ما أورد أعلاه تلخيصا شديدا له، ومكثفا لمحتوياته، بادرته بالسؤال التقليدي، أو المتوقع، إن جاز لنا القول: ما هو السبيل لانتشال الذهن العربي من حالة الخمول هذه، والوسيلة المجدية التي تضع حدا لهذه الحالة قبل أن تصل إلى مرحلة الاستقرار والتوطن، ومن ثم إلى حالة  "الفالج" غير القابل للعلاج؟

بادرني برد مصحوب بابتسامة يصعب التمييز بين كونها تعبير عن شفقة أم شيء آخر، لكنها كانت صارمة، ونحو هدف كان، كما يبدو، قد حدده مسبقا، موجها خطابه نحوي، "أنت الآن حالة نموذجية لحالة الخمول الذهني العربي التي طال حديثي عنها. أنت تبحث عن (وصفة طبية جاهزة، أو برشامة كما نقول بالعامية)، في حين أن المطلوب هنا هو تحول كل تلك العوامل إلى تحديات حقيقية، يعمل المجتمع العربي بشكل صادق وجاد في آن، من أجل مواجهتها، إن كانت هناك نية في التمرد على حالة الخمول، ووضع حد لها".

ثم أضاف، في نبرة شابتها مسحة من سخرية مرة، "الخطوة الأولى في العلاج هو الاعتراف بالمرض، وهي خطوة تسبق البحث عن الطبيب المناسب، الذي لن ينجح في وصف الدواء الناجح ما لم يتخلص المريض من سلوك خمول الذهن العربي الذي يصر على رفض الاعتراف بأمراضه حتى أمام الطبيب الذي عاده بحثا عن الدواء الشافي".

وقبل أن ينصرف ذلك الصديق، همس في أني قائلا، وأخطر أنواع العلاج هي تلك الوصفات الجاهزة، وأشدها سوءا تلك المستوردة من الخارج.

جرني ذلك الحديث الشيق مع صديقنا القارئ النهم، بشكل عفوي إلى مراجعة قمت بها في العام 2013، ونشرت في صحيفة "الأيام" البحرينية لرواية "ظل الأفعى" للكاتب يوسف زيدان. كان عنوان تلك المراجعة "خمول الفكر العربي في (ظل الأفعى)". ليست الصدفة وحدها هي التي تفرض مثل هذا العنوان بعد مضي أكثر من خمس سنوات على نشره. فالشعور باستمرار فعل ذلك الخمول، وتمظهره المستمر في سلوك منتجيه، هو سبب كاف يرغم من يرصد مكونات فضاء الفكر العربي على تلمس آثار أقدامه الثقيلة على الطرق كافة التي توصل إلى ذلك الفضاء.

وتحاشيا للخضوع لقوانين ذلك "الخمول، أو بالأحرى "ضمور" مثل هذا الفكر،  فمن الطبيعي تجنب الخضوع لمكوناته، وما تفرزه من سلوك وفي مقدمتها تذييل المقال بمجموعة من الإرشادات التي، لا بد لها من أن تثقل كواهل مكونات أي فكر، مهما بلغ من الإبداع، فما باك ذلك الذي يعاني من خمول.

ليست تلك دعوة للاستسلام لقوانين هذا الخمول، والقبول بها، بل هي دعوة صادقة لرفضها والتمرد عليها، وأول خطوات السير على هذا الطريق، هو تلمس عناصرها، والاعتراف بأمراضها، كي نتمكن في خطوة لاحقة رفض القبول بها، والتمرد عليها من أجل التأسيس لفكر عربي مبدع وخلاق في آن، دون الحاجة، كما أشار ذلك الصديق إلى أي نوع من أنواع "الوضفات الجاهزة"، فهي شبيهة بالوجبات السريعة تسد الجوع لكنّها لا تقيم الأود.