ليلة وصول المكاتيب

 

علي بن سالم كفيتان

لا يزال فريقُ حفر آبار المياه يعمل دون كَلل أو مَلل في بوادي قطر، وجُل موظفيه من جبال ظفار، الذين لم تُتح لهم فرصة التعليم؛ لذلك تجدهم يتَّجهون للوظائف التي تعتمدُ على القوة البدنية، أو على مَعرفتهم التراكمية بشؤون الثروة الحيوانية، ومن ابتسمتْ له الظروف عَمل في شرطة المطافئ -أو كما يسمونها (الحريجة)- ومع ذلك تجدهم سعداء ومتفانين في أعمالهم؛ فالأهم هو الحصول على فرصة لكسب المال، مهما كانتْ المعاناة، وأصبحت المبالغ الضئيلة التي تُرسَل عبر "حولة عدن" هي طوق النجاة الوحيد لمئات الأسر المحاصَرة في الريف والبادية، في ظلِّ بناء سُور يعزل مدينة صلالة عن محيطها، مدعم ببوابات عليها حراسات مشددة، لا تسمح بتمرير إلا كَميات قليلة من الغذاء؛ خوفا من استخدامه لتموين الثوار المناوئين للحكومة.

دَفعتْ الأسر في تلك الجبال والبوادي فاتورةً غالية لهذا الصراع؛ ففي الوقت الذي آمَن فيه الجميع بأهمية التغيير، واستعدوا للتضحية برمقهم الأخير، في ظلِّ انعدام البديل، تولَّدت عقيدةَ الثورة، ورسخت تلك التوجهات بعد الهجرات الجماعية للخليج؛ حيث تنوَّر المهاجرون ورأوا البَوْن الشاسع بين ما يحدُث في بلادهم وما هو حاصل في البلدان الخليجية، وتعرَّفوا على مفاهيم جديدة كانتْ رَائِجة في تلك المرحلة؛ ومنها: القومية العربية، ودعم القضية الفلسطينية عبر كل السبل؛ فكان كل مُهاجر يستقطع من راتبه الشهري لدعم المقاومة الفلسطينية، بل ذهبوا أبعد من ذلك، فشاركوا في جبهات القتال على تُخُوم فلسطين، فاستشهد البعض دفاعاً عن التراب العربي، وآخرون استوطنوا الشام، واكتسبوا الجنسية العربية، فظلَّت وفيةً لهم حتى غادرُوا الدنيا، وهناك من عادَ إلى الوطن بعد استلام جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- مقاليدَ الحكم في البلاد، وإصداره العفو الشامل، ودعوته الجميع للعودة لبناء عُمان.

وفي المساء، الكلُّ مُرهق، ومُعظم عُمَّال بئر المياه في صحراء الغرافة مُستلقون في الخيمة، وفي تلك الأثناء شُوهِدت سيَّارة ينتظرها الجميع تأتي كلَّ شهر مرَّة.. إنَّه ساعي البريد، وكاتب الخطابات للأهل في ظفار، تهلَّلت وُجُوه الموجودين، ورحَّبوا بالساعي الذي جلب حقيبته السامسونايت السوداء الحاوية للمكاتيب، وفي قعرها رُزمة الأوراق البيضاء المسطَّرة وقلم جاف لمن أراد أن يكتُب خطابًا، أو يردُّ على مكتوبٍ، تجمهروا على الرجل وهو يقرأ لهم أسماء من وصلتهم رسائل، وكلُّ واحد منهم يأخذ المظروف، ويقف في الصف حتى يأتي دَور قراءة كلِّ خطاب على حدة؛ فمنهم من لا يُمانع أن يسمع الجميع محتويات المكتوب، وآخرون يطلبون من القارئ الذهاب بعيداً على حجارة أو خلف الخيمة، ويستمع بعناية لكلِّ كلمة وحرف قادم من ظفار، ظلَّ هو بعيداً كونه لا ينتظر مكتوبًا، بينما الآخرون فَرِحون بالأخبار السعيدة، أو حزينون منكسرون للأخبار غير المفرحة، وهي في غالبها كذلك.

أخذتْ العَبَرات مكانها، وانسابتْ كدُموع على وجهٍ سعيد؛ فقد ماتتْ أمُّه. ونفق جميع قطيع مسلَّم من الجفاف، بينما أبناؤه يطلبون الغوثَ من المجاعة التي تضرب المنطقة. وفَرِح مسعود بولادة زوجته لابن ذكر، فهم بحال أفضل وإبلهم في مأمن بالمنطقة الغربية من ظفار، وتلقَّى آخرون أسماءَ أهاليهم الذين قضُوا في الثورة، وكانت معظم المكاتيب تُذيَّل بطلب المال؛ لأنَّ الظروف باتت لا تُطَاق في ظلِّ الحصار والحرب. بعد الانتهاء من القراءة، جاء دور الكتابة، تقدِّم المهاجر الجديد ومعه ورقتان فلوسكاب، مُسطرتان بالأحمر، ووقف على رأس قائمة المراسلين، فكتب لأخيه بأنَّه أرسل لهم مبلغ 80 روبية هندية تصلهم كاملة بعد اقتطاع رسوم الحوالة، وأنه سينتظمُ في إرسال المبلغ إلى دُكَّان بن تمام في الحصن شهريًّا ليقتطع منه دَينه السابق، ويستمر في منح التموين اللازم للأسرة، وأنه بخير، كما طلب أنْ تصله أخبارهم أوَّلًا بأول عبر المكاتيب، وحمَّل أخاه توصيل سلامه للجميع، وخصَّ صاحبه سالم بن النقيب اليافعي بالاسم.

قبل منتصف الليل بقليل، أغلق الساعِي حقيبتَه بعد أنْ كدَّس فيها الكثيرَ من الأوراق التي تحملُ همومَ وآمالَ هؤلاء المهاجرين، وغادرت سيارة اللاندروفر المعسكر، بينما وقف الجميع لتوديع الرجل على باب الخيمة، فتلك هي الليلة الاستثنائية في كلِّ شهر؛ حيث يستطيع كلُّ واحدٍ معرفة أخبار أهله، والاطلاع على ما يجري في الجبال التي يجُوبها الثوار، وترتفع فيها الشعارات، بينما الموت يحصد الكثير من الأرواح بصمت.