الخليج الجديد.. جسد ممزق وعقل مشتت

مسعود الحمداني

كَسَب الإعلام الخليجي الرِّهان، وفازتْ السياسة في مباراة الإلغاء والترهيب، وتشكَّل في المنطقة -نتيجة لذلك- عقلٌ شعوبيٌّ جديد، منطقه التخوين، ولغته الازدراء والشتم والتقزيم، وهُويته التبرير والتحقير، ووسيلته الشَّباب ومنصَّات التواصل الاجتماعي، عقلٌ وَقِح، ناكرٌ لكلِّ معاني الوفاء، قاطعٌ للرَّحم والقربى، مُغيَّب عن الحقائق، لكنه سريع التحوَّل، سهلُ الاستقطابِ والتأثر، ومُخِيف في أعماقه، يتنكَّر لكلِّ جميل، ويُظهرُ بإصرار وترصُّد لسانا قبيحًا، وتفكيرًا سقيمًا لا يخدم أمَّة تسعى للمستقبل، وتدَّعي الإلفة والمحبة، والمصير المشترك.

أَصْبَح العقل الخليجي الجديد رهينَ الإعلام المدجَّج بالحقد والكراهية، والمسيَّس حد النخاع، والذي يذهب بعيدًا في زَرع بذور الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويجنِي ما يحصُد سريعًا في عُقول البسطاءِ والإمَّعة من أبناء شعبه، والذين أصبحوا وقودَ هذه الأزمة الخليجية-الخليجية، وفتيل نارها، والتي باتتْ تأكُل الأخضر واليابس من المبادئ والأخلاق العربية البدوية الأصيلة، وأصبحَ أبناءُ الخليج بين حزبيْن، كلُّ حزب يهاجمُ بشكل هستيريٍّ الطرفَ الآخر؛ وكل حزب يحطُّ من قدر خَصْمه، ويُطلق عليه عبارات لا تليق بمسلم، ولا عربي، ولا وفيٍّ، وأقل تلك الصفات التخوين، وأقذعها التي تلغ في الأعراض والأنساب والقبائل، ويتعملقُ فيها الأقزام ليتطاولوا على الحُكَّام، وفيها من السبِّ واللعنِ ما لا عَين رأت، ولا أذن سمعت، وفيها من الجاهلية ما لم تفعله قبائلُ العرب قبل الإسلام.

والمُؤلم أن الساسة أنفسهم لا يُرِيدون لهذه الموجة الجديدة من العقول أن تَهدأ، ولا يُريدون لهذه الأزمة أن تَنتهي، بل يُشجعون مثل هذه الأصوات النَّشَاز لبثِّ سُمومها في عقول الأطفال، والشباب، ويستخدمون هذه الطاقات العظيمة في تأجيج أوار حربهم الشعواء ضد دول الجوار، إما بغرض إلهائهم عن مشكلاتهم الداخلية، وإما لتحويل أنظارهم عن القضايا الأساسية من حولهم. ولم تنجُ من تحريضات السياسة رياضةٌ، ولا فنٌّ، ولا شعيرةٌ إلا ودنَّسوها، وأقحموا خلافاتهم فيها، وفرَّقوا -لأجل أهدافهم- الأسر، ولوَّثوا الأنفس، وظَهَر الحقدُ الأعمَى، والتحزُّب الأهوج في تصرُّفات شعوبهم، حتى اتسع الرَّتق على الراقع، وعلا الموج حتى كاد أنْ يُغرق الجميع، وارتفعتْ الأصوات البغيضة التي لا ترى ما تحت أقدامها، تُطبِّل وترقص على جُثث الأزمات والمصائب، وقد يأخُذ الأمرَ زمنًا طويلًا جدًّا لكي تهدأ القلوب، وتطمئن النفوس، وتعود شعوب الخليج إلى وِفَاقها الذي ضاع في رياح السياسة.. وأيّ سياسة!!

المُشكلة الأكبر أنَّ بعض المغرِّدين والإعلاميين العُمانيين انضموا لهذه القافلة المسيَّسة، فأصبحتْ أقلامهم مُسخَّرة للرد على كل نابحٍ، وناعقٍ، إمَّا لكسبِ شُهرة وبطولة وهمية، وإما من باب الغيرة على سمعة الوطن -من وجهة نظرهم- وتساووا بذلك في عَملية الازدراء والتقزيم والتهميش والإلغاء التي يُنكرونها على غيرهم، وفي كلِّ الأحوال لن تُفلح هذه المجموعة (المدافعة) في سدِّ نوافذ الحقد والكراهية، وسياط التهجُّم، ولن تستطيعَ أن تنجُو من جَمر الفتنة الطائفية المقيتة التي انغمسَ فيها الآخرون، والتي يتزعَّمها بعض الشخصيات الوهمية التي تقف خلف عبارات الترهيب وبثِّ روح الفرقة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي أصواتٌ قد تأتي من خارج الخليج، هدفُها إبقاء نار الفتنة مُتَّقِدة، وقد تكبُر دائرة السباب والشتم حتى تعم، ونصبح -نحن العمانيين- جزءا منها، ويذهب فضل ما بنيناه طوال عقود في لجَّة القذف واللعن، ثم لن يَبقى من سِماتنا التي عرفها عنا الآخرون إلا الذكرى.. فليت هَؤلاء المغردِّين العُمانيين يترفَّعون عن الخوض في هذه المهاترات؛ فليس أسهل من الكتابة خلف (الكيبورد)، وليس أبسط من فتح قاموس السباب والشتم، ولكن من الصعب أن تبقَى رفيعا، عاليا، وأنت تنظرُ لمن هم يقذفونك من بعيد نظرة علوٍّ وهيبة، وأن تدَّخر قدراتك اللغوية وحجتك لم يستحقها في نقاش علمي وأدبي، لا أن تقذفَ بكلماتك في كل اتجاه، وتعطي لأولئك التعساء فرصة الانتشار على حسابك، وحساب بلدك.