د. سيف بن ناصر المعمري
قالَ لي أحدُ المدرِّسين البريطانيين في معهد اللغة التابع لجامعة جلاسجو، والتي حصلتْ منها على درجة الدكتوراه: "درَّستُ خلال أكثر من عشرين عامًا العديدَ من الطلاب العُمانيين، وخرجتُ بملاحظة عامة عنهم، ظلت ثابتة لم تتزع بداخلي، وهي أنهم الأكثر جدية ودافعية للدراسة، مقارنة بغيرهم من الطلاب الذين يأتون من الخليج وغيره من بلدان العالم النامي".
هذه الملاحظة لم تَكُن مُقتصرة على هذا المدرس، إنما أكَّدها كثيرون من مختلف جامعات العالم، وأكدها أيضا تفوُّق الطلاب العُمانيين على أقرانهم في الجامعات التي يدرسون بها، وإحرازهم العديد من الجوائز وبراءات الاختراع، وحالة الإبداع والتميُّز تَشمل أيضا الطلاب الذين يدرسون داخل مؤسسات التعليم داخل السلطنة؛ حيث يُسجِّلون خلال العام الدراسي الواحد العديد من الابتكارات والاختراعات، والتي تُوثَّق إعلاميًّا ويُحتَفى بها، ويتمُّ إبرازها في شبكات التواصل الاجتماعي، ونشعُر جميعًا بفخر وطنيٍّ لا حدود له؛ لأنَّ هؤلاء المبدعين يضعُون اسمَ بلدنا في أهم السجلات العالمية؛ وهي السجلات العلمية التي تعد القاعدة لتحقيق التقدم الاقتصادي والصناعي. لكن تلك النشوة الوطنية لا تستمرُّ طويلًا فتنتهي، دُوْن أنْ تقودنا إلى التساؤل عن مُستقبل هؤلاء المبدعين، وكيف نَعمل على استثمارهم من خلال إطلاق مشاريع قائمة على أفكارهم وإبداعاتهم، أو وضعهم في الجامعات في مراكز البحث؛ بحيث يكونوا نواة للتطوير العلمي في هذه المؤسسات، أو التساؤل عن كيفية تقديم الدعم المالي لهم الذي يقودهم إلى مزيد من بناء خبراتهم في تخصصاتهم العلمية، أو في كيفية حمايتهم من البطالة والجلوس في البيوت والتي تقود إلى فقدانهم أو تعرُّضهم للتمييز تحت وطأة الظروف الاقتصادية، ومثل هذه التساؤلات تعبر عن اهتمامنا بالعقول التي نمتلكها، والمعتقدات التي نحملها عنها، هل نراها مصدرا مهمًّا لتحقيق نقلة نوعية للبلد، أم أنَّنا لا نكترث ولا نُبالي بهم، بقدر مبالاتنا بكيف نتدبر أمر النفط وغيره من القطاعات التي يُمكن أن توفر لنا أموالًا نُنفقها على المدى القصير، والباقي نتركه لله يدبِّره.
لقد عملت على التواصل مع مجموعة من الشباب تخرجوا في جامعات مرموقة على مستوى العالم، وآخرين مُتفوقين في مؤسساتهم حقَّقوا المراكز الأولى على دفعاتهم؛ من أجل التعرف على أوضاعهم الوظيفية، وتفاجأت بأنَّ مُعظمهم يعاني من البطالة منذ تخرجه قبل عدة سنوات حتى الآن، قالت خريجة تقنية معلومات كانت الأولى على دفعتها، وتطمح أن تكون مدرسة في كليتها: إنَّ "الجلوس في البيت هدية التفوق"، وقال شاب آخر خريج جامعة أمريكية مرموقة: "تركتُ الشهادة التي حصلت عليها بتفوق بعد سنوات من النضال في البيت، وأخذت عربتي إلى أحد الشوارع في ولايتي لإعداد المشاوي التي لا تتطلب السفر إلى أمريكا، ولا الدراسة لأربع سنوات، لو كنت أعرف لاختصرت الطريق"، وقال ثالث كان أفضل منهم: "وجدت وظيفة في شركة بعد انتظار فترة من الزمن، لكنني لم أتخيل أن الدراسة ستقودني لأن أكون كاتبَ مخازن، يتم إداراتي وتوجيهي من قبل شخص لا يملك مُؤهلا جامعيا". وتشابهتْ الأقوال لدى البقية الباقية منهم عن أوضاعهم، وأكدوا أنهم جادون في البحث عن فرص عمل خارج البلد؛ لأنهم يُدركون أن مؤهلاتهم وكفاءتهم لا يمكن أن تقودهم إلى هذا المصير البائس. والسؤال الذي نطرحه هنا: لماذا نترك ذوي العقول لدينا بهذا الشكل؟ لماذا ندير لهم ظهورنا؟ بل إنَّ بعض المسؤولين والإعلاميين ذهبوا إلى مباركة عمل هؤلاء على أرصفة الشوارع، معتبرين ذلك نموذجا مشرفا ومِثَالا يُحتذى، خالطين بين قيمة العمل وبين أهمية استثمار العقول بشكل أفضل، بدلا من هدرها بهذه الطريقة، التي تقود إلى التأسيس لفقر علمي، في وقت تعمل فيه البلد على الحديث عن إستراتيجيات طويلة المدى، وعن بناء قطاعات اقتصادية وصناعية، وعن رفع مستوى البحث العلمي، وهي كلها خطوات تتطلب غنًى علميًّا يقود إلى ازدهارها.
إنَّنا إنْ لم نتعامل مع العقول العمانية كشأن إستراتيجي، سوف نخسرها، لأنَّ هناك من يحتاج إليها، ويقدر قيمتها، وحين نخسرها لن نجد أمامنا إلا الاستعانة بغيرها من الخارج ممن لا يملكون نفس نبوغها، سوف تذهب هذه العقول لتكون خبرات في أماكن أخرى من العالم، حين لم تحصل على اعتراف وتقدير لخبراتها في بلدها، وسوف تتحول البلد إلى منطقة طاردة بدلا من أن تكون جاذبة لأهم فئة في المجتمع وهي الفئة النابغة؛ مما يقود إلى "فقر علمي" يصعِّب من علمية التغلب على المشكلات والتحديات المختلفة التي تواجه التنمية، والخطورة حين تتحرك التنمية في عالم معقد دون علماء ودون بحث علمي، فكيف تحقق أهدافها الإستراتيجية، والنجاح هو مرتبط ليس بإصدار قوانين وتشريعات إنما بإنتاج أفكار وحلول لا يقدر عليها إلا النوابع من الباحثين والعلماء، ألم ندرك بعد أن التنمية اليوم هي عملية لإنتاج نموذج تنموي متقدم وناجح.
إنَّ السؤال الذي أودُّ توجيهه للمؤسسات المعنية: ما هي خططكم وإستراتيجياتكم للحفاظ على العقول العمانية الشابة والنابغة من الهجرة إلى الخارج، في ظل البطالة وقلة الدعم الذي تعاني منه؟ إنْ لم تَكُن هناك رؤية فلنعلم أن بعض الدول في المنطقة بدأت في وضع سياسات ستجذب إليها الكثير من هؤلاء الشباب الذين يريدون أن يعملوا في بيئات داعمة ومحفزة، توفر لهم حياة تليق بالنبوغ الذي يمتلكونه.