الطرابلسي تطلق العنان لـ"فنتازيا" في تونس

...
...
...
...
...
...


الرؤية - تونس
تستمد النظريات والمناهج والقوانين وطرق التعامل وقوة التغيير، شرعيتها من الواقع المعيش، من الشارع بكل تجلياته (وخاصة المقهى) الذي هو قلب الواقع والملهم الأول، والحضن الأساسي لذلك، خاصة في ظل عزوف النخب (أعضاء مجلس الأمة والقياديون والسياسيون وكذلك دعاة الدين والثقافة والفكر) عن مسايرة الواقع المعيش، حيث غالبا ما تعيش أوقاتها في أبراجها العاجية متعالية على واقع الطبقات الشعبية.
وللشارع سطوته وجبروته كلما تعلق الأمر بالتغيير والتحول، عنده فقط تسقط كل النظريات وكل التوقعات والمعادلات لتعوض بأخرى جديدة يفرضها الشارع دون حسابات مسبقة.. فقد أصبح الشارع مكانا ووسيلة لتنمية وعي الفرد، ومكملا لدور الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية والمؤسسات الرسمية الأخرى، وهو أفضل مكان لبلورة نظريات المواطنة الجديدة للتعايش السلمي بين جميع الثقافات.
وإذا كان فن الشارع هو ما يُطلق على الفنون البصرية التي تم إنشاؤها في الأماكن العامة، وارتبط كثيرا بالفنون التشكيلية والموسيقية، فإن فنتازيا جاءت لتوازي هذا المفهوم بطريقتها الخاصة، وهو مفهوم يرسخه بسطاء المجتمع وفنانوه الفطريين ليثبتوا بأن الفن هو كل ما يجول بخواطرنا دون حسيب أو رقيب، ما عدى الرقيب الجمالي الذي يفرضه الفن ذاته، وأنه يمكن أن نبدع خارج سياق الأمكنة المخصصة سلفا للفن والثقافة. نفعل ذلك قصد الاتصال المباشر مع الجمهور، خارج أي رسميات ومن دون أي حدود أو قيود أو شروط، وكذلك للفت انتباه الإعلام والرأي العام لمواهبنا وإبداعاتنا .
كما نسعى لوضع الفن في سياقات مختلفة عن سياقاته السائدة، وخلق بيئة موازية للبيئة الرسمية له. حيث نهدف إلى نقل الفن للجمهور العريض بالتواصل المباشر معه، والحديث حول الموضوعات التي تمسه مباشرة، اجتماعيا وعاطفيا وإنسانيا بطرق فنية جمالبة مبتكرة. نعتبر الشارع منصة قوية للوصول إلى الجمهور وشكل قوي من أشكال التعبير الفني والثقافي والاجتماعي والسياسي عن الطبقة العامة من الشعب، ولمحاربة التهميش والاحتكار والرقابة التي تفرضها بعض المؤسسات الثقافية.
ولأننا لم نجد فضاء نقرأ فيه نصوصنا ونتحدث فيه بحرية عن همومنا وعواطفنا وأفكارنا وأمالنا وآلامنا، ونناقش فيه واقعنا ومستقبلنا، ووضعنا الاجتماعي والثقافي وموقعنا في الخارطة العالمية، قررنا ان نؤسس تظاهرة تهتم بنا (نحن الشباب) وتفتح لنا مجالا للتعبير عن أنفسنا وعن أفكارنا وكيفيات تطوير إبداعاتنا بمختلف أصنافها وأنواعها،  نقرأ فيها نصوصنا، ونعزف موسيقانا، ونرسم لوحاتنا، ونناقش أفكارنا، أسميناها فنتازيا.
لم تكن المؤسسات الرسمية الثقافية وغير الثقافية لتخصص لنا فضاءاتها، ولتسمح لنا بالمشاركة المستمرة في تظاهراتها المخصصة أصلا للمثقفين (الكبار)، ولم تكن تلك الفضاءات لتعطينا كامل حريتنا في التعبير عن حالنا ونحن بعد لم نزل في بداية البداية، فكان علينا أن نجد البديل المناسب من دون أن نزعج أحدا، وكان البديل هو المقهى، لأنه المفضل للشباب، يجلسون لشرب القهوة ومشتقاتها وللتدخين والحديث، ومشاهدة مباريات كرة القدم ولعب الورق... وغير ذلك. فكرنا في تغيير نمط وسلوك جلساتنا وأهدافها أيضا، وقلنا، لم لا نجلس في المقاهي لنقرأ الشعر ولنعزف الموسيقى ونناقش الكتب ونتحدث عنها؟ والحمد لله أن الفكرة لاقت استحسان الشباب، وقد نجحنا في تحقيق ذلك.
فنتازيا تظاهرة ثقافية أدبية تأسست في أوت 2015 بفكرة الأختين القاصة نيران الطرابلسي والكاتبة ضحى الطرابلسي، وهي تهدف إلى ملء أوقات فراغ الشباب بأمور أكثر فائدة لهم ولمواهبهم، تنبههم إلى ضرورة الكتاب وأهمية القراءة في حياتهم، تشجعهم على الكتابة والإبداع بمختلف أنواعه، انطلقت من مقاهي تونس الثقافية والعاديّة وأدخلت عليها الكتاب والشعر والفن، ثم تحولت إلى مواعيد محددة ومنظمة، تقام مرة كلّ شهر، في مقهى جديد وفي مكان جديد.. يشارك فيها الشباب المبدع، الذي يكتب القصة والشعر والخواطر والمقالات القصيرة حول الحب والسلام، والشباب الذي يغني ويعزف ويمارس أي نوع من أنواع الفن، فنتازيا هي بالشباب وللشباب ويديرها الشباب.
فنتازيا هي تعبير عن تحرر الشباب التونسي المثقف والمبدع وعن قوة إرادة الفنان في تغير السائد وترسيخ أفكار جديدة من شأنها أن تقدم الإضافة والبديل الأنسب. ولعلها نجحت إلى حد ما في ترسيخ فكرة أن الفن ليس بحاجة لدور الثقافة ورسميات وزارة الثقافة، بل هو بحاجة لأشخاص مبدعين يمكنهم أن يمارسوا الفن في المقاهي والشوارع إن لزم الأمر..
فنتازيا فضاء إبداعي متنقل، غير مستقر في مكان، وغير ملزم بفن معين أو بجنس أدبي واحد، كل مقاهي تونس هي فضاء مناسب لها، وكل أنواع الإبداع هو مقصدها، لذلك فقد تنقلت فنتازيا عبر مقاهي تونس العاصمة، المحمدية، تستور، قليبية، مجاز الباب، سيدي بوزيد، المكناسي، سوسة، المروج، ... وغيرها. وهي الآن قد بلغت دورتها الـ 27 ، وقد استضافت أكثر من 100 مبدع شاب، وكذلك استضافت الكثير من الأقلام التونسية المعروفة، كضيوف شرف، على غرار الشاعر الكبير محمد الخالدي مدير بيت الشعر السابق، والذي أصبح صديقا دائما لفنتازيا، وكذا الشاعر أحمد شاكر بن ضية مدير بيت الشعر الحالي، والروائي الكبير كمال الرياحي مدير بيت الرواية... وغيرهم من الكتاب الذين أفادونا بتجاربهم الرائدة في مجال الكتابة الأدبية.
كما خصصت بعض دوراتها لمواضيع محددة، عادة ما تأتي عفوية، على غرار دورات (ممنوع على النساء)، (فنتازيا عيد الحب)، (فنتازيا أولاد لحوم)، (فنتازيا القصة) ، (فنتازيا تقرأ) .. وغيرها من الدورات التي ميزتها ظاهرة ما أو موضع محدد.. وهي ماضية بدون ضجيج كبير ولا حسابات.. ماضية نحو تحقيق الانتشار الذي يساعد الشباب المبدع على إثبات ذاته الإبداعية وفق ما يراه مناسبا، لا وفق ما هو مسطر له مسبقا. وكانت ملهمة لكثير من الشباب الذين بعثوا تظاهرات مشابهة في مختلف ولايات الجمهورية.

 

تعليق عبر الفيس بوك