لهذا يهرول الكيان الصهيوني نحو التطبيع

 

علي بن مسعود المعشني

 

مرَّ الكيان الصهيوني بأطوار ومراحل مُختلفة منذ احتلاله لفلسطين وإشهاره ككيان سياسي عام 1949م بإرادة دولية قهرية فُرضت على الأمة العربية في زمن غياب الدولة العربية وعصر الاحتلالات الاستعمارية الغربية المُباشرة.

وحين توالت أعوام الاستقلال العربي في عقود تلت ذلك الإكراه التاريخي، كان الغرب الاستعماري قد مهَّد للكيان البنية الواهنة للأمة بفعل اتفاقية سايكس/ بيكو والتي أفرزت بالتخطيط والنتيجة الدولة العربية القُطرية "الوظيفية" والتي لاحول لها ولا قوة؛ حيث عمل الاستعمار على تفاوت الثروات والمساحات والكثافة السكانية وتواريخ الاستقلال لينتج كيانات هزيلة وواهنة ومتباينة يسهل ابتزازها والتحكم والتفرد بها من الداخل والخارج رغم كل مظاهر الاستقلال الصوري من حدود وعلم ونشيد وعملة، وهذه التفاصيل التي تُمثل المشكلات الجذرية لإعاقة الأمة وغياب مشروعها النهضوي والوحدوي تحتاج إلى مجلدات لشرحها وتشخيصها بالتفصيل الدقيق.

المهم في هذه العجالة أنَّ الكيان الصهيوني قام على أرض فلسطين وفُرض علينا كأمر واقع وكالقضاء والقدر، وقد رافق قيام هذا الكيان حملات تضليلية هائلة للتلاعب بالوعي العربي وتغييبه وتزييف حقائق التاريخ والجغرافيا، وجملة هائلة من حصار العقل العربي بشعارات تمجد العدو وتهوله وتغرس الهزيمة النفسية فيه بالإلحاح وصولا إلى مرحلة إنتاجه الذاتي للهزيمة النفسية وجلد الذات وبسط ثقافة البؤس والفجيعة بين الأجيال والتجاسر على الثوابت والقراءة الانتقائية للتاريخ العربي من قبل النُخب والمنزوعة من سياقها وظروفها ومسبباتها، أضيف إلى كل تلك المعوقات والمعضلات نشأة خطاب إعلامي مليء بالبذاءات الفكرية ومناهج تعليمية هشة ساهمت في تأسيس بنية الجهل وتسطيح الوعي ونشوء عقلية البُعد الواحد. وهذه الأدوات جميعها هي من نتاج ثقافة الدولة القُطرية الهزيلة والتي أرادها الاستعمار كي تتهرب من استحقاقاتها التاريخية والحضارية ولتمارس باقتدار دور الكيان المستقل عن الأمة بدلا عن دور الأقليم بداخل الأمة المجزأة.

لهذا سهل على الغرب لاحقًا التفرد بالأقطار العربية التي استشعرت الحالة العربية وسعت إلى الاستنهاض عبر تبني الخطاب التوعوي وسياسات المواجهة والمشروعات النهضوية الأنموذج للأمة من تعليم أو صناعات أو قوة عسكرية أو اقتصادية قد تشكل قدوة وأنموذجاً تحتذي به الأقطار العربية ويقلل من منسوب القدرية والانبهار بالغرب وتقبل الهزيمة وروح المسكنة إيثارًا للسلامة من الانتقام والتنكيل الغربي.

لعقود طويلة والغرب وكيانهم المزروع في جسد الأمة يقتاتان على مازرعاه في وعي الأمة من هرطقات وخرافات وأساطير لا تستقر سوى في عقول الطارئين على الحياة والتاريخ والحضارة، وبالنتيجة فقد استيقظت تلك المدنيات الطارئة والمُتطفلة على التاريخ والحضارة على صحوة عربية غير محسوبة يقودها الوعي الجماهيري العربي والمتسلح بأمجاد أمته والغيور على سلب مكانتها اللائقة بين الأمم، حيث خرجت فصائل المُقاومة لتُعلن عن نفسها كحكومات ظل في الوطن العربي وكقوة رديفة ومؤازرة للواعين بسيرورة التاريخ ودهاليز السياسة من أقطاب النظام العربي الرسمي. وعبقرية هذه الفصائل المقاومة تكمن في سلميتها وتناغمها التام وتكاملها العميق مع نسيج الدولة الوطنية لغاية هذه المرحلة الحرجة من عُمر الأمة، ونجاحها في خلق توازن الرعب والردع مع كيان العدو وداعميه وبالنتيجة كان لابد لهذا الكيان أن يُدرك خطورة الوضع المتعاظم من حوله وأن يسابق الزمن ليتعلق بقشة التطبيع كورقة أخيرة ليحدث اختراقًا في الجسد العربي بعد أن أيقن بأن آلته الدعائية الضخمة في الأزمنة السابقة لم تعد تنطلي على أحد من جيل الانتصارات العربية اليوم وأن زمن الهزائم قد ولى إلى غير رجعة، وأن زمن تحويل الهزائم العسكرية إلى انتصارات سياسية لم تعد ممكنة اليوم في زمن أصبحت فيه المقاومة دولا وفصائل وجبهات وثقافة عابرة للحدود والأجيال.

تجارب التطبيع الصهيونية مع بعض الحكومات العربية وبترهيب أمريكي وغربي أنتجت مقاومة شعبية صامتة فيما مضى من الوقت أما اليوم، فقد أدرك الصهاينة هذه الحقيقة المرة لهم فسعوا إلى التطبيع المباشر مع الشعوب استثمارًا لسياسات التسطيح التي مارستها الدولة القُطرية العربية لتبرئ ساحتها من القضايا القومية واستدراكًا للمد المقاوم والذي يتعاظم كل يوم ليخلق حالة عربية مثالية للنهوض بعد تجاوز عثرات وأعراض الاستعمار الجديد والمتمثل في تكريس التبعية واجتثاث الكيان الغاصب وإنهاء مهمته التاريخية في إعاقة الوعي العربي من التفكير في النهوض وإفشال المخطط الغربي من جذوره والمتمثل في سايكس/ بيكو وأغلالها.

لهذا يهرول الكيان الصهيوني ويُسابق الزمن من أجل تحقيق شيء من الاختراق لإحداث خلخلة محسوبة ومؤثرة في النسيج العربي ما يمكنه من تحقيق احتراب عربي/ عربي بين عرب التطبيع ومن في حكمهم ممن يعيشون بأثر رجعي لم يُواكب أو يستوعب المستجدات على الأرض وبين عرب المقاومة والذين يوقنون بأن المستقبل لهم لا محالة وأن العدو لم يعد بمقدوره سوى اللعب على الأضداد والمتناقضات العربية مدعومًا برعاية بعض الكبار ممن مكنوه من فلسطين في لحظة غفلة تاريخية لن تتكرر.

قبل اللقاء: الكيان الصهيوني لا يمكنه الصمود والبقاء في وجه حرب "حقيقية" ولا في ظل سلام "حقيقي".

وبالشكر تدوم النعم.