ما بين الجابري وطرابيشي!

 

عبد الله العليان

 

تابعت عن بُعد محاضرة الكاتب والباحث السوداني الأستاذ غسان علي عثمان، والتي حملت عنوان (قراءة في مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي)، والحقيقة أنَّ الباحث غسان، أجاد حقيقة في قراءاته لمشروع الجابري، واستطاع أن يستوعب فكرته في نقد العقل العربي وغيرها من الرؤى الجابرية الفكرية، سواء اتفق معه البعض أو اختلف.

لكن المُحاضر كشف بحق رؤية الجابري ومنطقاته الفكرية بصورة وافية وعميقة، واعتبره من الباحثين القلائل الذين عرفوا فكر الرجل أكثر حتى مما عرفه بعض تلاميذه في رأيي، في هذا المشروع الكبير وفي كتاباته الأخرى، ولكن العديد من الباحثين والكتاب العرب، اختلفوا مع د. محمد عابد الجابري، وناقشوا ما طرحه في هذا المشروع في مؤلفات ودراسات كثيرة، ومن هؤلاء الذين اختلفوا مع الجابري بحدة، الباحث السوري القدير الأستاذ جورج طرابيشي، الذي قدم مشروعاً ناقداً لعمل الجابري، وسماه (نقد نقد العقل العربي)، وكان الباحث جورج طرابيشي، معجباً إعجاباً كبيراً بالجابري، عندما أصدر الجزء الأول من مشروعه في نقد العقل العربي (تكوين العقل العربي)، وكتب عنه في مجلة الوحدة التي كانت تصدر في لبنان، مادحاً فكرة نقد العقل العربي والتقى معه في إحدى المناسبات.

غير أنَّ طرابيشي، صدم من الجابري ـ كما قال ـ بعدما تحدث الجابري في كتابات "في رأيي من الواجب استبعاد العلمانية شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يُعتبران تعريباً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي". وهذا هو المشكل الذي جعل جورج طرابيشي، يتغير تجاه الجابري وينقلب من مُعجب إلى معارض للكثير من أطروحاته واتهمه بأنَّه (متحامل على اللغة العربية) وأن(استنتاجاته خاطئة) ، وغيرها من الانتقادات لمشروعه النقدي، وقد قال ذلك في بعض حواراته، ففي مقابلة بجريدة الشرق الأوسط 27 يونيو 2004 أجرتها الكاتبة الصحفية سوسن الأبطح، قال طرابيشي إنَّه كان أحد المعجبين بمحمد عابد الجابري "ثم صدمني ـ أي الجابري ـ حين كتب مقالة في مجلة" اليوم السابع "التي كانت تصدر في باريس أواسط الثمانينات يقول فيها "فلنسحب هذه الكلمة ـ يقصد العلمانية ـ من قاموس الفكر العربي" هنا شعرت أن كل الآمال التي علقتها عليه باعتباره رائد ثورة معرفية ـ لا ثورة آيديولوجية ـ سقطت وتهاوت".

 إذن خلاف جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري، كان سببه رأي الجابري في العلمانية، وهذا غريب جداً أن يكون هذا الرأي، وهذا الاختلاف (صدمة)، وليس تعدداً وتنوعاً في الأفكار والرؤى، وهذا ما برز في تعليقه على الجابري، في حواره مع د. حسن حنفي، في مجلة (اليوم السابع)، وصدرت هذا الحوارات والتعقيبات، في كتاب تحت عنوان(حوار المشرق والمغرب)، وكتب طرابيشي في هذه الحوارات (مقالتين) انصبتا على ما قاله الجابري عن العلمانية، ومما قاله في هذا التعقيب ـ وقد أشرت إليه في مقالة سابقة ـ إنَّ الجابري: "يريد الاستعاضة عن شعار العلمانية بشعاري العقلانية والديمقراطية. وعلى هذا النحو تتحول الحداثة إلى سوق للخردة نبتاع منها ـ بأبخس الأثمان ـ ما نشاء، وندفع ما نشاء إذا ما تخوفنا من ارتفاع ما في ثمن التكلفة، والواقع أنَّ استبعاد الجابري للعلمانية أشبه بفعل من يُريد أن يجعل كرسي الحداثة يقف على قائمتين اثنتين بدلاً من ثلاث أو أربع". ص142. وليس د. الجابري الذي قال وحده، أننا لا نحتاج للعلمانية، أو أنَّ العلمانية قضية أوروبية خالصة، وتطبيقها تتنافر مع الواقع العربي الإسلامي، بل إنَّ العديد من الكتاب العرب من ذوي التوجهات القومية واليسارية، قالوا بهذا الرأي، فدكتور حسن حنفي قال في بعض مقالاته: (لا نحتاج للعلمانية، ولذلك نرفض التغريب والعلمانية)، د. برهان غليون قال في كتابه [نقد السياسة.. الدولة والدين]:" التصنيم الذي شهده مفهوم العلمانية هو الذي يفّسر تعثره وهزاله في المجتمعات والثقافات العديدة غير الأوروبية"، د.عبد الإله بلقزيز قال مقالة له، أشار إليها جورج طرابيشي في كتابه [المثقفون العرب والتراث]، إنَّ "العلمانية ما هي إلا حصيلة للسيطرة الاستعمارية السياسية والاقتصادية والثقافية على المنطقة العربية". أما ما قاله البعض في المناقشات عن قضية الخلاف بينهما، بعد المحاضرة، ورد المحاضر عن اعتقاد طرابيشي أن الجابري يتجاهله بسبب مسيحيته، فهذا بعيد جدًا عن فكر الجابري ورؤيته، وهو كما قرأت له يحترم الكثير من العلماء المفكرين العرب المسيحيين، ودورهم الكبير في الفكر والثقافة، وخاصة اللغة العربية ومعاجمها، والجابري في مسألة منتقديه، سواء على مشروع نقد العقل العربي، أو غيره من المؤلفات، وهذه طبيعته المعروفة، فلم يرد على نقد د.علي حرب، ولا على د. محمد جابر الأنصاري، ولا د. يحيى محمد، ولا على د. طيب تيزيني، أو غيرهم، وعندما سئل عن ذلك في حوار معه بمجلة [سطور] المصرية قال الجابري: "الذين ينتقدوني ثلاثة أصناف، هناك صنف يمر على العمارة التي بنيتها ويُعيبها أو يمدحها دون أن يدخل ويعرف ما فيها، وهناك صنف ثانٍ يهجوها ويسبها، وهناك صنف ثالث يقذفها بالحجر وجورج طرابيشي من الصنف الثالث... وهذا لا يشغلني. إن الذي يدخل عندي في العمارة ويناقشني..أتناقش معه إلى أن نصل للحقيقة ونقترب منها..فنصلح ونعدل، أما الذي يقول لي إني زرت العمارة ولم تعجبني، وسوف أبني عمارة جديدة بجانبك ..فهذا اختلاف مشروع وضروري، وهناك من يأتي من الخارج ويمر ثم يقذف بالحجر". فالجابري له موقف فكري أنه لا يرد، وهذا أيضًا أتبعه الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، الذي لا يرد على الانتقادات، فالرد الوحيد الذي كتبه هيكل هو كتاب [بين الصحافة والسياسة] كرد على الكاتب الصحافي مصطفى أمين، الذي أتهمه بأنَّه تسبب في سجنه في منتصف الستينيات من القرن الماضي.