القلب يعشق كلَ جميل

 

 

عائشة بنت أحمد سويدان البلوشية

إحدى روائع الست "القلب يعشق كل جميل.. وياما شفت جمال يا عين"، كانت هذه التحفة الغنائية المعبرة عن الحب الإلهي هي إحدى الأغاني التي تركها الشاعر بيرم التونسي عام 1961م بعد وفاته للسيدة أم كلثوم، ضمن عدة نصوص أخرى، لكنها احتفظت بالنص ولم تقدمه لجمهورها إلا في الثالث من فبراير عام 1971م. وخلال هذه المدة من عمر الزمان تغيرت الأغنية العربية؛ حيث اتجهت أم كلثوم وملحنو أغنياتها إلى التعبير أكثر من التطريب، كما أن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب انضم إلى مجموعة ملحني أغنياتها خلال هذه المدة، وهذا سر زيادة عدد الآلات الموسيقية وتنوعها في روائع الست، ويقال إنَّ زكريا أحمد كان قد قام بتلحين ذات النص في العام 1946م، وسجله بصوته عام 1946م على مقام البسته نيكار، لكن السيدة أم كلثوم لم تشدُ بالنص إلا بلحن رياض السنباطي في 1971م، والمسجلة على أسطوانة صوت القاهرة عام 1972م، وقد أبدع السنباطي في لحن الأغنية؛ لأنه لم يعتمد أسلوب الابتهالات الدينية مثلما فعل في "نهج البردة" أو "سلوا قلبي" عام 1946م، بل جعله لحنا خفيفا قريبا إلى القلب؛ لأن هذا النص يعد من أروع ما كتبه الراحل بيرم التونسي متخيلا إحساسه وهو يدلف بكل الشوق إلى المسجد الحرام، وتلك المشاعر الفياضة التي تكتنف الروح عند زيارته لذلك المكان الطاهر، وذلك الجمال المقدس الذي يكسو الأجواء عند مشاهدة الكعبة المشرفة، وبالإحساس الروحاني للكلمات جاءت القفلة مختلفة في هذه الأغنية عن أسلوب التكرار الذي اعتادته الأغاني العربية في تلك الحقبة، وبلغت سيدة الغناء العربي ذروة الإحساس عندما وصلت إلى المقطع الذي يقول: "واحد ما فيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته.. وأما تجلالي.. بالدمع ناجيته"، ما أروع الكلمات وما أبدع اتساقها مع اللحن؛ لأنها تنقل للمستمع ذلك الإحساس النوارني الجميل الراقي، بروحانية منقطعة النظير.

فعلاً القلب يعشق كل ما هو جميل، وهذا مرآة للمقولة التي حفظناها صغارا: "كن جميلا ترى الوجود جميلا"، وجاءت نصائح مُعلمينا ووالدينا وجميع من أسهم في غرس القيم النبيلة في نفوسنا، كن جميلا في كلماتك وأفعالك، وفي حركاتك وسكناتك، كن جميلا في كل قطرة تسكبها من فمك أو يدك، وسيصبح الوجود جميلا بك ولك، وتأتي نظافة القلب واليد واللسان على رأس هرم الجمال الإنساني، التي إن حافظنا على سلامة وجودها واستخدامها -لن أبالغ إن قلت بأننا- سنصل إلى مستويات روحانية من السلام النفسي والبيئي لا بأس بها.

هل سبق لأي منكم رؤية مُصلٍّ أو عابد من أي ديانة من الديانات يقيم صلاته أو عبادته أو تبتلاته في مكان غير نظيف؟ بالطبع سوف تكون الإجابة بالنفي؛ فالصلاة هي الاتصال بالخالق جل وعلا، وأصبح شيئا لا يجادل فيه شخص، أن يتهيأ الإنسان له بحوارحه وهندامه ومكانه قبل الوقوف بين يدي ربه، ونظافة القلب واليد واللسان والمكان هي دليل إجلال وتحضر لخشوع جميل لمن تحبه، فتحس بجمال وجلال كل همسة تهمسها لملائكة الرحمن، كي يسجلوها كما همستها أو تمتمتها، والإنسان منا في كثير من الأحيان يشتاق لذات ركعة، وقفها وهو حاضر الذهن والقلب والجوارح؛ لأن الشيطان يقف لنا بالمرصاد، ليشغلنا بوسوسته، فيتحرك اللسان، ولكن الفؤاد والذهن في شرود في أمر من أمور الدنيا -نسأل الله العافية والثبات- لكنه لا يستطيع أن يلهينا عن اختيار المكان النظيف والجميل وربما الرائحة الطيبة تفوح من الملبس أو المحيط؛ لأنه أمر من البديهيات أو المسلمات التي لا يمكننا التفريط بها، وقد حثنا الله تعالى بذلك في محكم كتابه العزيز؛ حيث قال عز قائلا حكيما في سورة الأعراف: الآية 31: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، فما أجمل أن نقبل على مساجدنا في كامل طهارتنا البدنية والروحية، متزينين بالطيب والإقبال بشوق على كل فريضة.

وهنا، أصل بك سيدي القارئ إلى أن نظافة المكان تنقل إلينا جماله بالتبعية، وأن العين تأنف النظر إلى كل ما هو مُستقذر، وكم تألم الكثير منا ببعض المناظر الواردة إلينا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد ارتياد الكثير من الأسر في سياحة داخلية إلى مختلف ربوع السلطنة في فترة الإجازات الماضية، وما خلفه الكثير -ويا للأسف- منهم من قذارة شوهت منظرا، فآذت عينا تأنف القبح، أو قتلت مخلوقا اقتات عليها، ولأنني أؤمن بأن كل أمر يحدث لأن الله تعالى أراده لنا، فليس من باب المصادفة وأنا في خضم كتابة هذا المقال أن تصلني رسالة جميلة تقول: "الوطن ليس أغنية وطنية، أو مقالا في جريدة، لكنه الشيء الذي يمنعك من إلقاء زجاجة فارغة في الطريق العام"، جملة أسعدتني جدا؛لأنها اختزلت معاني الحب الجميل للوطن في خلق بسيط في فعله، عظيم في نتائجه، خذ أسرتك أو صحبك أو حتى منفردا، واستمتع بنعم الله من حولك، واعبد الله تعالى بالتأمل والنظر إلى مقومات الطبيعة الرائعة التي حبانا إياها الخالق، وخذ معك حاجتك من الطعام، بل خذ زادك واطبخ طعامك في ربوع الأودية والتضاريس، ونسمات الأجواء الجميلة تمدك بطاقة إيجابية، ولكن مثلما وفدت على بقعة نظيفة جميلة، حاول قدر الإمكان أن تتركها لغيرك كما وجدتها؛ فهذا الفعل من أبسط الواجبات عليك تجاه وطنك المحب، أفلا تعشق كل جميل؟ أوليس وطنك هو صاحب الاستحقاق الأول كي تعشق تفاصيله حتى الرمق الأخير؟

-----------------------

توقيع:

"إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى.. وحظك موفور وعرضك صين.

لسانك لا تذكر به عورة امرئ.. فكلك عورات وللناس ألسن.

وعينك إن أبدت إليك معايبا.. فصنها وقل يا عين للناس أعين.

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى.. وفارق ولكن بالتى هى أحسن"

(الإمام الشافعى)