عبيدلي العبيدلي
مؤخرا صدر للكاتب عبد النبي الشعلة كتاب حمل عنوان "غاندي وقضايا العرب والمسلمين". يقع الكتاب في 259 صفحة من القطع الكبير. يستهل المؤلف سبره لأغوار العلاقة بين غاندي وقضايا العرب والمسلمين، بسرد مجموعة من الأسباب التي دعته لتناول الموضوع، من بين الأهم بينها طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد العربية من والتي تتميز بتصاعد أعمال العنف التي تجتاحها منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، الأمر الذي يفرض "حاجة منطقتنا العربية، أكثر من أي منطقة أخرى، إلى إيقاظ واستنهاض قيم ومبادئ المحبة والتسامح والتعايش والسلام التي نادى بها وطبقها المهاتما غاندي، وحاجتنا الملحة أيضًا إلى الخروج من دوامة الفتن والتناحر والاقتتال".
وينطلق الشعلة في سياق سعيه البحث عن دواعي الكتابة هذه كي يبحر عميقا في سيرة غاندي الذاتية، مركزا على أهم محطات تحولاته الفكرية، التي تبرز بينها فهم غاندي العميق للعلاقة التي تضبط إيقاع الارتباط بين المواطن والدولة، حيث يرى غاندي "المواطن غاية العملية السياسية وليس الدولة، وجعل الفرد محور اهتمامه، وهو بذلك يختلف عن الكثير من معاصريه من القادة والمفكرين السياسيين، أمثال لينين وستالين وماوتسي تونغ، ...(ملتزماً بأن) رسالة العمل السياسي تتمحور أساساً في عملية إدارة تفاعل المجتمع لتحقيق التحول والتغيير كالانتقال السلمي من مجتمع الظلم والقهر إلى مجتمع العدالة والحرية".
هذا المفهوم المتقدم لمثل تلك العلاقة التي يبشر بها غاندي تتناقض تماما مع تلك النصائح التي قدمها نيكولا دي برناردو دي ميكيافليي لـ "أميره" حاكم مقاطعه في إيطاليا يدعى لورنزو دي مديشي، قبل ما يزيد على خمسمائة سنة حين دعاه، كما تتناقله المصادر التي نقلت نصوصا من كتاب الأمير إلى:
تعليم شعبه "معنى روح الدولة حتى تصبح أحسن القوانين ذات منفعة وحكمة والمحافظة على الدول بقليل من الكلام وكثير من الأفعال". ومن وجهة نظر ميكافيللي فإن "الضمان الأساسي لكي يكون الحكم ناجحا هو القانون وقوة تنفيذه وتذكر أن السلاح يجعل القوانين جيدة". كما أن "احترم الأخلاق طالما لا تعرقل الأهداف السياسية والاقتصادية... ولا مانع من استخدام الاستبداد لجذب الاستقرار للشعب... والملك لا يفتقر أبدًا للأسباب لكي يتراجع عن وعوده".
هذه يجعل القارئ يكتشف أن الدعوات التي تزخر بها كتابات غاندي تفتقدها الكثير من مكونات العمل السياسي العربي التي كثيرا ما وجدت نفسها، من خلال ممارساتها، بوعي أو بدون وعي أسيرة دعوات ميكافيللي، وليس تبشيرات غاندي.
أكثر من ذلك، نجد كما ينقل الشعلة عن غاندي، أن هذا الأخير لا يكف عن تحدي "النظريات السياسية التي تدعو إلى علمنة السياسة، وتلك التي تدعو إلى تسييس الدين، وأدرك منذ البداية حساسية وخطورة الدمج أو الربط بين السياسة والدين، خصوصاً في المجتمعات متعددة الأديان والمعتقدات الدينية كالهند. كان غاندي يؤمن بأنّه لا يمكن الفصل بين القيم الدينية والمبادئ السياسية، فهي متداخلة ومكملة لبعضها بعضا، وإن استحالة الفصل بينهما كاستحالة الفصل بين الدم والجسد. فاستنبط غاندي صيغة تجمع بين السياسة والدين والأخلاق في بوتقة واحدة، وأضفى الطابع الأخلاقي على المبادئ السياسية وطعمها بقيم روحية".
نجد المؤلف ينقل عن غاندي رفضه دعوات كل من حاول وضعه في خانة دينية سوى الهندوسية، بما فيها تلك الديانات السماوية مثل الإسلام والمسيحية، فنجد الشعلة يقتطف من "مجموعة كتابات غاندي، (ما نصه) يدور همس بأن قيامي بتوثيق علاقتي بأصدقائي من المسلمين والمسيحيين سيجعلني غير مؤهل لفهم العقلية الهندوسية، إن العقلية الهندوسية هي أنا، إنني هندوسي سناتاني Sanatani Hindu، بعضهم قد يضحك ويقول كيف يمكن أن أكون هندوسيا سناتانيا وأنا أكل وأشرب من أيدي مسلمين ومسيحيين".
لم تكن الصدفة وحدها هي التي دفعت غاندي نحو الهندوسية، فهو يعرف أن انتمائه لها يعني انتماءه للغالبية العظمى من سكان الهند، ومن ثم فهو عندما يقود تلك الفئة، يكون موضوعيا يقود الغالبية الساحقة من سكان الهند، وبالتالي فهو لا يخطئ "بتقزيم" دوره من خلال ابتعاده عن تلك الأغلبية.
وفي سياق رصده للمكونات النظرية التي شكلت الخميرة الأولى لفكر غاندي، نجد المؤلف يبرز بوضوح ثروة غاندي الفكرية التي أهلته لأن يكون "مخططا استراتيجيا وتكتيكيا"، ولذلك نرى غاندي، كما يرسم صورته الكاتب يعيد النظر " فيما كان يعرف بالمقاومة السلبية Passive Resistance)) التي يصفها المؤلف بأنها (المقاومة المستكينة)"، والتي يرى غاندي، كما ينقل المؤلف عبارة أنها "لن تعكس النبض والروح الحقيقية لأهداف الحراك المنشود، وأن العبارة تنطوي ايضا على نوع من السلبية واحساس بالضعف والاذعان والاستسلام، وأنها خالية من العنفوان والوثوب والمبادرة وغير قادرة على الإيحاء بالعزيمة والإيمان والتصميم والثبات. وقد ينظر إليها البعض على أنها (سلاح الضعفاء) وهو احتمال حرص غاندي على تفاديه بشكل قاطع". ويوضح الكاتب أن غاندي "بعد الفرز والتمحيص رسا الرأي على اختيار تسمية ساتياغرا (Satyagraha)... وهي كلمة مركبة في الأصل من كلمتين في اللغة السنسكريتية القديمة، كلمة (ساتيا) وترجمتها (الحقيقة)، وكلمة (أغرا) وترجمتها القوة، وبذلك يصبح أقرب معنى للكلمة (حقيقة القوة) أو (قوة الحقيقة) أو (القوة الحقيقية)". ويضيف الكاتب "لقد أكد غاندي على أن الساتياغرا تختلف عن المقاومة المستكينة، لأن في الأخيرة توجد دائما فكرة مضايقة الطرف الآخر، أما بالنسبة إلى الساتياغرا، فلا وجود إطلاقاً لأي إمكانية لإيذاء الطرف المخالف. الساتياغرا تشترط أن يتم التغلب على مناوئيك عن طريق قبولك للتضحية والأذى".
______________________________ ____ ____
* مراجعة ملخصة لكتاب "غاندي وقضايا العرب والمسلمين". تأليف الكاتب البحريني عبد النبي الشعلة.