حمد بن سالم العلوي
أعتقدُ -وأرجو أن أكون مخطئاً- أنَّ بعض المؤسسات التعليمية في السلطنة عَلَّمت الناس حتى يمتلكوا الشهادات، ولم تُعلِّمهم للعمل والإبداع؛ بدليل أنَّ هناك تساوياً بين الكثير من حملة الشهادات، وكنا نحتاج إلى العدالة التي تُنصف الناس المتعلمين؛ فالمبدع عمليًّا يحتاج إلى من يُحفزه، وكذلك الأخذ بيده للمزيد من الإبداع، وأن نُوجد له مجموعات متجانسة تسند بعضها بعضاً، وذلك بإعداد البحوث والدراسات في حل المعضلات، وإيجاد الشواغر للتشغيل، وأن تُوجد جهة تتبنَّى هؤلاء المبدعين؛ وذلك وفق مُيولهم العلمي والمعرفي، ومن لا نجد له بيئة يعمل فيها تُناسب طموحاته، يُعمل على إرساله إلى جهة أخرى في الخارج، لكي يحقق أهدافه الأكاديمية، أما أن يتم كبت من ليس له ما يناسب نبوغه وتفرده؛ فذلك يجعله فريسة سهلة للآخرين من المتربصين، فلا يجوز أن يظل التعليم من أجل التعليم وحسب، فهذا لن يُحدِث أي تغير في الساحة العُمانية على أي بُعد من الأبعاد القريبة أو البعيدة.
وعُمان هي الدولة التي لم تَعرف الحداثة إلا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وتعدُّ دولة فتية بغض النظر عن عُمق تواجدها في التأريخ البعيد، وفترة خمسين عاماً من الحداثة، تعد فترة وجيزة في عمر الشعوب، وغير كافية كأسلوب يعتمد على التجريب بين الصح والخطأ، وكان الواجب يفترض أن تتبنى الحكومة نهجاً ذا أهداف واضحة ترعاها بنفسها، ولا تترك الناس يتلمسون طريقهم بأنفسهم دون هدي، فالحياة اليوم أصبحت أسهل من ذي قبل، نظراً إلى وجود تجارب حية وقريبة، كتجارب سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية، وحتى جمهورية الصين التي بدأت تلملم شأنها من سنوات قريبة، وأصبحت اليوم في مقدمة عمالقة الصناعة والاقتصاد في العالم، ونحن لدينا سوق الخضار والفواكه بالموالح وغير قادرين على إدارته، وكانت لنا تجربة فاشلة في سوق الخضار بالخوير، وأصيب بخيبة كبرى، فلم تقم له قائمة إلى اليوم؛ لأنَّ القرارات المتخذة لا تكون ناجحة على الإطلاق، وذلك دون تخطيط وتأهيل وتنفيذ صحيح، وإشراف ومتابعة جادَّيْن.
إنَّ الخطأ الذي وقع فيه نهج التعليم من أجل التعليم كما هو واقع الحال، أن تركنا الناس يقلدون ما يأتيهم عبر وسائل الإعلام الكاذب الآتي من دول الجوار، وهي ليست بالقدوة التي تصلح للنقل عنها، أو الاقتداء بها، وقد شخًّصها أحد كتابهم حيث قال في مقال نشره قبل سنوات في "مجلة الشروق"، إنَّ الإنسان في دول الجوار يعيش حياة فندقية؛ وذلك بمعنى أنَّ المواطن يعيش حياة رفاهية وقتية وليست دائمة، ولأننا في عُمان لم نُحصِّن بالتعليم شبابنا، فقد أصبحوا عُرضة للإغواء الإعلامي المحرض. وقد لا يخفى على بعض العارفين، أن عُمان موضوعة تحت مجهر بعض الصبية، المهوسين بحب التوسع والسلطة؛ لذلك يوجهون إعلامهم وأدواتهم للهجوم على عُمان؛ بُغية الفتِّ في عضدها، وجعلها لقمة سائغة عندما تَحِين الفرصة، حتى إنَّهم عندما بدأ الناس بنشر وسماً "هاشتاج" بطلب التوظيف، تعمَّدوا طرد ما تبقى لديهم من أشخاص يعملون لديهم؛ وذلك بهدف توسعة أزمة التوظيف، إنْ كانت المعلومة صحيحة، وإن لم تكن كذلك، فما سبقها يكفي للتأكيد على نواياهم السيئة؛ ذلك عندما كانت تطرد كتائب بأكملها من الجيش دون مراعاة لحقوق.
إنَّ نخوة الإنسان العُماني تحميه من الغدر؛ ذلك عندما يعرف بالأهداف الخبيثة التي يُدفع بها تجاه وطنه وقائده وأهله، فإنه سينتخي، ولن يقبل الإضرار بمصالح الوطن، فقط يحتاج أن يُشعر أن المسؤول يقف بجانبه، ويُطلعه بشفافية على الدسائس التي تُحاك ضد الوطن. إذن على هذا المسؤول، أن يُغيِّر من أسلوب التهميش للمواطن قبل فوات الأوان، وأن يتحلى بالشجاعة ورباطة الجأش، وأن يُقبل ولا يدبر على الناس، وألا يعتمد على الحلول الأمنية في كل المشكلات؛ فالمواطن العُماني يرد التحية بأحسن منها، عندما يشعر أنه محترم ومقدر من المسؤولين، وأنهم يقفون إلى صفه، ويسعون إلى حل مشاكله التشغيلية، فهو لا يستجدي عطفاً من أحد، لكنه يريد أن يعمل بكرامة واحترام. لقد شكر هذا المواطن وتأثر عاطفياً تجاه رجال الأمن، يوم حضر إلى وزارة القوى العاملة؛ وذلك مقابل لفتة إنسانية بسيطة، كان عنوانها "قنينة ماء" حصل عليها من رجال الشرطة، فرد بالتحية تحية أفضل منها، فبمجرد أن قرروا إخلاء المكان، قاموا بتنظيفه من المخلفات، وغادروا المكان مع فائق الاحترام والتقدير.
إذن؛ هذا هو الإنسان العُماني لا تضيع أخلاقة وقت المشقة، وفي المقابل لا يقبل أن يُضيَّع وسط الزحام، ونحن عندما نطالب برفع الجرعة الوطنية للمواطن العُماني، بتعليمه تأريخه وبطولات أجداده، ليس المقصود من ذلك التباكي على الأطلال وعلى ما فات من أمجاد، وإنما التأريخ يعد الركيزة القوية التي يقف عليها الإنسان لينطلق من قاعدة صلبة، ونحن نرى اليوم أنَّ هناك أناساً يعيشون في بحبوة من المال الرغد، لكنهم يشعرون بضعضعة نفسية لعدم امتلاك تاريخ ينتخون به، ونسوا أو تناسوا أنهم هم من هرب من التاريخ، حتى الأسماء غُيِّرت لكي يمحوا الذاكرة والصلة، وهي قد خلقت لهم اليوم قلقاً كبيراً، ويحاولون أن يشتروا ركيزة تاريخية بالمال لتوصلهم بشيء ما؛ لذلك تجد الإنسان العُماني فخوراً بذاته؛ لأنَّ نفسه مُفعمة بالوقار لوضوح الهوية الوطنية.
لقد آن الأوان لتصحيح المسار وربط الماضي بالحاضر، وإخراج بعض الشباب من زاوية المقارنات، والتقليد بما لدى الجوار من حياة فندقية أكثرها من نسج الخيال الإعلامي غير الصادق، وأن العمل والكدح هي عنوان لبداية الطريق، فعلينا أن نبتعد عن القفز فوق المراحل، وأن نبدأ بالوظائف والمهن المتدنية والبسيطة، وألا تكون الشهادة معرقلة من كسب العمل؛ لأنَّ كل تاجر عملاق في عُمان، إن أنتم سألتموه عن بداياته، ستجدونه بدأ من تحت الصفر؛ فواحدة من الشركات العُمانية العملاقة، كان صاحبها يقود سيارة "بيك آب"، وكان قد توقف على الطريق يشرب كوب شاي، فسأل صاحب المقهى إن كان يعرف له مهندساً ليعمل معه، فقال له يعرف أحد الأشخاص، ولكن ليس لديه مشكلة في الإقامة، فأحضره له فوظفه، وأنا بأم عيني رأيت ذلك المهندس يقود سيارة بيك آب، وهو يُشرف على بناء صغير، واليوم إذا أراد أن يتنقل بطائرة خاصة، فهو أمر هين معه؛ لأن مقاولاته أصبحت بالملايين، إذن العمل بإخلاص مع الذات ومع الناس هو سر النجاح، وليس بالأمنيات وأحلام اليقظة.
لكن على الحكومة أن تدخل بقوة مع الناس حتى ينجحوا في العمل، وإن رؤية 2040 يجب أن يكون ضمن إطاراتها التشغيل الحقيقي، وليس غير ذلك، وألا تكون مسكنات لترحيل الأزمات، لأنها إذا تركت تتراكم فإنها لن تحل، بل قد تنفجر في أية لحظة، ويومها لن نقوى على الوقوف في وجهها، والناس يحتاجون إلى الدعم المؤقت حتى تستمر العجلة في الدوران، وعندئذ سيحمل الناس بعضهم بعضاً.
لذا؛ على المركز الوطني للتشغيل الموعود، أن يحدث تغييراً في الأسلوب، وإلا فإن تجريب المجرب لن يكون إلا تكرارا لما ثبت فشله سابقاً، وإن العبرة في نجاح المركز، ستتوقف على شخصية الرئيس، والصلاحيات التي ستكون في يده، ولا أتصور أن يكون هذا المركز مجرد مبنى وطاولات، ومجموعة موظفين تستقبل الناس، وتقابلهم وتدوِّن معلوماتهم، ومن ثم يقال لهم سنتصل بكم لاحقاً، وإنما يجب أن تكون هناك لجان فعالة، تضع الخطط على ضوء معلومات تم جمعها من قبل المختصين، وإن القادم بطلب العمل تعرض عليه مشاريع ووظائف، وعليه أن يختار ما يناسبه، وأن تقدم له الحكومة الدعم المالي، كدعم في الراتب، أو دعم في تمويل مشروع ما، والشيء المهم أن يكون هناك جهاز إشراف ومراقبة ومتابعة وتقييم وعقوبات وحوافز.
حفظ الله عُمان وجلالة السلطان المعظم -أعزَّه الله وأطال في عمره- ووفَّق الشعب العُماني للرقي بهذا الوطن، والسهر على أمنه واستقراره وتقدمه، وأنْ نُحصِّن أنفسنا ضد حسد الحاسدين وكيد الكايدين.. اللهم آمين يا رب العالمين.