ميزانية النمو والاستدامة

حاتم الطائي

 

التخطيط الحكيم أنجز العديد من المشاريع التنموية الكبرى دون ضغوط مالية

39% من الإنفاق العام لقطاعات التعليم والصحة والإسكان والرعاية الاجتماعية

إعلان الميزانية دعوة للتفاؤل بالمستقبل المشرق لبلادنا واستمرار مسيرة البناء والتنمية

 

 

وضعت الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2019، حزمة من التطلعات والمُستهدفات الاقتصادية والمالية ما يُبرهن على أنَّ الجهود الحكومية- فيما يتعلق بتحفيز النمو الاقتصادي ودعم سياسات تنويع موارد الدخل- قائمة ومستمرة وفق رؤية مدروسة تقضي بعدم تحميل المواطن ما لا يستطيع، وها هي الأرقام التي كشف عنها بيان وزارة المالية تؤكد صحة ذلك، بل وتُعلن مجموعة من الخطوات من شأنها أن تعزز برامج الضمان الاجتماعي المقدمة للمواطنين.

الميزانية بأبعادها وتفاصيلها أحدثت زخمًا اقتصاديًا في المشهد المحلي، فالجميع ناقش وتداول أخبار الميزانية، البعض استعرض مخصصات التنمية فيها، والبعض الآخر ركز على توقعات إيرادات النفط، وبين هؤلاء وهؤلاء يتعين أن ننظر إلى بُعد ثالث وهو جانب استدامة الموارد والنفقات، باعتبار ذلك هدفاً أسمى يتحقق من خلال سياسات مالية تضمن عدم إلقاء العبء بالكامل على الأجيال القادمة، بجانب رسم خارطة طريق تشتمل على آليات تغطية العجز المالي وكيفية سداد الدين العام، بما لا يُعرقل جهود تنفيذ المشروعات التنموية.

ولفهم أكثر عمقًا لبنود الميزانية، يجب النظر إلى المنحنى الهابط للعجز المالي مُقارنة مع الأعوام الخمس السابقة للعام الجاري، وكذلك إبراز الزيادة الواضحة في جوانب الإنفاق، لاسيما على مشروعات التنمية، مع مواصلة جهود تنويع موارد الدخل، وخاصة موارد الوزارات والهيئات الخدمية، والأهم من ذلك كله استهداف تحقيق النمو في الناتج المحلي الإجمالي والذي يُتوقع أن يصل إلى 3 في المئة، وهو المعدل الأعلى بين دول الخليج مُجتمعة. وإذا تأملنا هذه النسبة نجد أنَّها تتماشى مع توقعات المؤسسات الدولية، وهذا اعتراف من قبل هذه المؤسسات بقدرتنا- نحن العمانيين- على تحقيق النمو رغم التحديات الاقتصادية، وفي المُقدمة منها تراجع أسعار النفط وتذبذبها، إضافة إلى المتغيرات الجيواستراتيجية، وتقلبات الأسواق الناشئة، وضعف أداء أسواق المال.

وفي جانب الإيرادات، اعتمدت الميزانية العامة للدولة سعر 58 دولارا لبرميل النفط سعراً تقديرياً لحساب الإيرادات، بواقع 970 ألف برميل من الخام يوميًا، وهذا السعر يُمثل المتوسط المتوقع- في أحسن الظروف- لمبيعات النفط، والتي باتت تتحدد أسعارها وفق تجاذبات سياسية وتقلبات لا تمت بصلة لمبدأ العرض والطلب الذي ينبغي أن يكون المعيار الحاكم. لكن وعلى الرغم من ذلك، نجد أن إجمالي الإيرادات تصل إلى 10.1 مليار ريال عُماني، محققة زيادة 6% عن حجم الإيرادات في العام المنصرم، وكذا الحال فيما يتعلق بالإنفاق العام الذي يُقدر بنحو 12.9 مليار ريال عُماني بارتفاع قدره 400 مليون ريال عُماني عن الإنفاق المُقدر لعام 2018م، أي بنسبة زيادة 3 في المئة، وهنا يتجلى الأداء المُتميز في كيفية إدارة الموارد، واتخاذ إجراءات رصينة تضمن عدم زيادة العجز، إن لم يكن خفضه، وهذا بالفعل ما حدث، فقد بلغ العجز المُقدر 2.8 مليار ريال عُماني وهو ما يُمثل 9 في المئة من الناتج المحلي. وهذا التراجع في العجز تحقق بفضل جهود ترشيد الإنفاق على مدار السنوات الماضية وكذلك في السنة المالية الجارية، واتخاذ المزيد من إجراءات التحوط المالي، والتريث في تنفيذ المشروعات غير الملحة، مع الحرص على تنفيذ المشروعات الخدمية والتنموية الأخرى.

ولعلَّ أبرز ما ساهم في تخفيف الضغوط على الميزانية العامة للدولة في 2019، أننا وبفضل التخطيط الحكيم انتهينا من تنفيذ أغلب المشاريع التنموية الكبرى، فمطار مسقط الدولي ومطار صلالة وخلال أيام مطار الدقم، مشروعات عملاقة أُنجزت على أرض الواقع، وأيضًا مشاريع البنية الأساسية الأخرى من طرق وجسور وخطوط كهرباء ومياه، كلها تحققت، ولم يتبق سوى القليل، وهذا القليل مُضمن في ميزانية العام الجاري.

ووضعت الميزانية هدفين رئيسيين، بتحقيقهما نكون قد نجحنا في إنجاز جانب رئيسي من الخطة الخمسية التاسعة قبل السنة الختامية لها المُقررة في 2020، ومن ثم الانطلاق بقوة وعلى أسس متينة نحو الخطة الخمسية العاشرة والتي تُمثل أولى مراحل تطبيق "رؤية عمان 2040". الهدفان الرئيسيان هما تحقيق الاستدامة المالية ورفع كفاءة الإنفاق. وتحقيق هدف رفع كفاءة الإنفاق، يتأتى عبر الموازنة بين ما نجنيه من إيرادات مع إعمال سياسات التنويع الاقتصادي من جهة، وبين حجم الإنفاق العام من جهة ثانية، مع وضع قائمة من الأولويات بهدف عدم الضغط على المصروفات، وتنفيذ المشروعات والسياسات وفق المُتاح من الموارد المالية، وعدم إغفال تحقيق العوائد الاقتصادية أو الاجتماعية.

أما هدف الاستدامة المالية فيُمكن إنجازه من خلال المُحافظة على مستوى العجز المالي في مستويات آمنة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لخفض حجم الدين العام، وتفعيل خطط هيكلة الإيرادات الحكومية، وزيادة إسهام الإيرادات غير النفطية في الإيرادات العامة، في إطار التصور العام القائم منذ بداية "رؤية عمان 2020" والذي يعتمد على الخفض التدريجي للاعتماد على النفط.

إذن نحنُ أمام ميزانية طموحة تستهدف تحفيز الاقتصاد الوطني عبر ما سبق من إجراءات، وبما يُحقق التنمية الشاملة والمستدامة، وتوفير شتى الخدمات للمواطن سواء كانت مشروعات بنية أساسية أم خدمات إسكانية وتعليمية ورعاية طبية.

ورغم تركيز الميزانية على مسألة ترشيد الإنفاق العام وزيادة الإيرادات غير النفطية، والتي من بينها الضرائب والرسوم، إلا أنَّها أولت اهتمامًا كبيرًا بالجانب الاجتماعي، فبرامج الضمان الاجتماعي تحظى بنصيب جيد في هذه الميزانية، وأيضًا الإنفاق على التعليم والصحة والإسكان، وهذه القطاعات كلها استحوذت على ما يصل إلى 39 في المئة من جملة الإنفاق العام، وهي الأكبر بين بنود الميزانية. ولنا أن نُشير إلى أنَّ مصروفات دعم الكهرباء والمنتجات النفطية والقروض ودعم الشركات الحكومية بلغت في هذه الميزانية 745 مليون ريال، وهو رقم كبير بالمقارنة مع باقي البنود، كما إن تخصيص مبلغ 3.5 مليار ريال لدفع رواتب موظفي الدولة، دليل وبرهان على موقف الحكومة الأصيل بتخفيف مستوى تأثر المواطن بالإجراءات الاحترازية وسياسات الترشيد المالي.

ويتبقى هنا نصيب القطاع الخاص وجانب الاستثمار في هذه الموازنة؛ وهو نصيب وافر خاصة في ظل ما تُوليه الحكومة من حرص على إشراك القطاع الخاص في مشروعات التنمية، ودعم هذا القطاع من أجل أن يُحقق النمو المنشود، وبالتالي زيادة قدرته على توظيف الشباب الباحث عن عمل. ولقد تضمنت الميزانية العامة للدولة الحفاظ على مستويات المصروفات الاستثمارية في القطاعات المُنتجة، وخاصة تلك التي ستوفر المزيد من فرص العمل والتوظيف وتدعم التنمية الاجتماعية، إلى جانب توفير الدعم اللازم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتطبيق إسناد نسبة العشرة في المئة من المشاريع والأعمال الحكومية إلى هذه المؤسسات، بما يضمن نموها واستمرارية نشاطها.

الإنفاق الاستثماري نال حصته كذلك في هذه الميزانية؛ إذ تسعى الحكومة إلى تحسين المناخ الاستثماري ضمن خطط تحفيز القطاع الخاص، ولذا خصصت الميزانية 3.7 مليار ريال لبند المشاريع الاستثمارية، منها 1.2 مليار ريال لتنفيذ مشروعات البنية الأساسية التي تشرف عليها الوزارات والوحدات الحكومية، وباقي المبلغ وهو 2.5 مليار ريال عُماني، فيستم توجيهه إلى الشركات الحكومية كي تتمكن من تنفيذ مشروعات صناعية وخدمية. وكل هذه المشاريع من شأنها أن تُعزز النمو الاقتصادي وتوفر المزيد من فرص العمل.

وإعلان تفاصيل الميزانية العامة للدولة دعوة للتفاؤل بما يُمكن تحقيقه من إنجازات خلال الاثني عشر شهرا المقبلة، وأن تكون هذه الأرقام الإيجابية والضخمة سببًا في أن ندرك حجم العبء الملقى على عاتق مؤسسات الدولة، كي تتواصل مسيرة البناء والتنمية في شتى القطاعات، وأن يعي كل مواطن جيداً ما تبذله حكومته من أجله، رغم التَّحديات.

ويُمكن القول إنَّ الميزانية العامة للدولة تضع المواطن دائمًا في مُقدمة المستفيدين من بنودها، من خلال برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع تطبيق خُطط الاستدامة المالية في إطار من السياسات الداعمة لمسيرة النهضة المباركة.