د. صالح الفهدي
لا قيمة لأمَّةٍ تنشدُ التحضُّرَ والتقدم دون العلم، ولا قيمة للعلم إن فَقَدَ مفهومه الوجودي العميق في تنمية القدرات الإنسانية، ووضع الإنسان في طريق الحضارة. وليس لنا أملٌ كأمم عربيَّة في التخلّص من الإشكاليات الحضارية التي نُعانيها والتي أعاقتنا عن السير على خُطى الدولِ المتقدِّمةِ علمياً إلاَّ بالعلم فهو أساسُ كل نهضة كما كان شأنُ الدول التي انتشلت نفسها من مستنقعات التخلف والرجعية وأخصُّ بالذكر سنغافورة وفنلندا.
وحيثُ إننا إزاءَ إشكالية عويصة تتمثَّلُ في ديدانٍ تصيبُ شجرةَ العلمِ فتفسدُ ثمره، فإنَّنا لا يُمكنُ أن نعالج المشكلة -كما نفعل للأسفِ في معالجةِ كل مشكلةٍ نواجهها- بقطفِ الثمر الفاسد، وإلقائه بعيداً ثم انتظار فسادِ ثمرٍ آخر لنتَّبع الخطوات ذاتها..! هذا ما فعله ملتقى خليجي يبحثُ في ظاهرة الشهادات العلميِّةِ المزوَّرة والوهمية حيثُ اقتصر الأمر على الإجراءات التي تتخذها الدول الخليجية لمحاسبة المزورين، والحاصلين على الشهادات الوهمية، بينما القضيّةُ في نظري أعمقُ من ذلك، وقد بيَّنتُ ذلك في مداخلةٍ لي أثناء انعقاد الملتقى قلتُ فيها: إنَّ المشكلةَ لا يُمكنُ علاجها بمجرَّدِ قطفُ الثمرَ الفاسدَ والتَّخلصِ منه، وإنَّما بمعالجةِ الأسبابِ العميقة، واستطردتُ قائلاً: إنَّ الإشكالية تكمن في مفهوم التعليم من أساسهِ، وهو ما يسوِّغ لأولياءِ الأمورِ أن يقوموا هم بحلِّ واجباتِ أبنائهم المدرسية وإنجاز المشاريع التي تطلبُ منهم أو على الأقل يكونوا لهم يدٌ فيها، وحين تلتحق هذه الشريحة بالكليات والجامعة لا يجدون غضاضة من استئجار عمل البحوث..!.
لقد قصدتُ في مُداخلتي عن إشكالية مفهوم التعليم أن السَّائد المترسِّخ في عقول المتعلمين هو أنهم يتعلَّمون من أجلِ الحصولِ على شهادةٍ لا على معرفة، وأنهم يتعلَّمون من أجلِ الحصول على وظيفة لا من أجل تنمية قدراتهم العقلية، وتوسعة إدراكاتهم الذهنية، وتطوير مواهبهم وإمكاناتهم بما يُساعدهم على التفكيرِ الإبداعي، والنقد البنَّاءِ، والعطاءِ المتجدد.
إنَّ الإشكالية التي تواجهها أمتنا هي وجود جهلة في أرديةِ متعلِّمين، فالتزويرُ قد يسهلُ اكتشافه والتقليل منه، والشهادات الوهمية قد يتيسَّر فضح أصحابها، إنَّما هناك أمرٌ من الصعبِ الكشف عنه وهو قيام بعض الجهلةِ الذين لا ضميرَ لهم باستئجارِ (مقاولين) يقومون بعملِ كل شيءٍ بالإنابةِ عنهم حتى حصولهم على الشهادات الصحيحة الموثقةِ من جامعاتٍ مُعتمدة..!!
هؤلاءِ كالديدان تنخر جذع شجرةِ التعليم التي تظلل الأمَّةَ، وتطعمها بثمرها، يقول الكاتب عبدالله بير في مقاربة وصفية وردت في مقالةٍ له بعنوان "لا تدع الديدان تقترب":"إذن الديدان سبب كل مشاكلنا، إنها سبب مشاكل كل البستان، إنها تنخر في كل شيء، لا يهمها سوى الشبع، إنها كائناتٌ قذرةٌ، طفيليةٌ، تأتي في لحظات الضعف، أجل إنها كائنات مستغِلة، لابد من قطع السبل عليها كي لا ندعها تقترب منّا، إنها تسرق منّا لحظاتنا الجميلة في حياتنا، لابد من القضاء عليها، ستصبح الحياة أحلى وأجمل بدونها".
ماذا ترانا فاعلون إزاءَ هذه العلَّةِ التي سبَّبتها هذه الديدان، في وقتٍ نراهنُ فيه على العلم كأعظمِ وسيلةٍ نتقدَّمُ وننمو بها..؟! يخبرني أحد الأكاديميين المعروفين قائلاً: يتقدَّمُ إلينا بعض حملة الشهادات العليا للتدريس في الجامعةِ، فيفشلون في الاختبارات التي نُجريها لهم لتقييمهم، ثم نفاجأ بأنهم لا يحملونَ شيئاً من علمٍ، فيطلبونَ منَّا أن (نسترُ عليهم)..!! يُريدون بهذا السِّتر الذي يستجدونه الاستمرار في الخداعِ والمناورة من مؤسسة تعليمية إلى أُخرى، حتى يجدوا تلك المؤسسات التي تتعاملُ مع التعليم كسلعةٍ لا يهمَّها أن يكونَ المحاضرَ فيها مزوراً أو جاهلاً..!
يقول أحد الطلاَّب الملتحقين في إحدى الكليات: إنَّ لدينا محاضراً لا يفعلُ أكثر من نقلِ أفكارِ الكتابِ في سبورةِ الفصل، وعدا ذلك فإنَّه لا يفعلُ شيئاً..!!
إننا بالفعلِ أمامَ إشكاليةٍ عميقةٍ لا يُدركُ أثرها إلاَّ من يفكِّرُ في عواقبها خلال الأعوام القادمةِ حين يطغى الجهل المقنَّعُ، ويختلطُ الحابلُ والنابل وقد بدأت المشكلة قبل اليوم، وبدأها للأسف بعضُ من أُنيطت على كواهلهم مسؤولياتٌ وطنية..! يُخبرني أحد الوجهاء أنَّ مسؤولاً ذهب إلى بلدٍ معيَّنٍ لدورةٍ من الدورات، وحين جاءَ سأله صاحبه عن أحوالِ سفره فقال له ذلك المسؤول: لقد عُرض علي هناك أن أحصلَ على شهادة الدكتوراه..! فقال له الوجيه: أترضى لنفسك أن يُسخرَ منك على ذلك؟ نصيحتي لك أن تبقى على حالك وألا تقبل هذا العرض التجاري، فوافقه المسؤول على نصيحته. لكن في المقابل كم قَبِلَ غيرهُ هذه العروض التجارية لمجرَّدِ الوجاهةِ، ومواكبة (الموضة) التي سببتها علَّة المظاهر في مجتمعاتنا حتى أصابت أعزَّ ما تملكه الأمَّة وهو التعليم..؟!
كتبَ لي أحد الأكاديميين ساخطاً يقول: حصلتُ على شهادة الدكتوراه في سبعِ سنواتٍ، ويأتِ أحدهم ليحصل عليها في سبعةِ أيَّام..!! وأزيدُ على ذلك بأنَّ منهم من لم يحضر أبداً لا في كليَّةٍ ولا في جامعةٍ ويحصلُ على الشهادات المرموقة..! ما هذا المرض الخطير الذي تفشَّى بيننا؟ وأينَ نحنُ من عواقبِ ظاهرةِ الديدان، هل نأسفُ على العلمِ أم على الأوطان التي تنتشرُ فيها مثل هذه الديدان التي همَّها أن تشبع نفسها بغضِّ النظر عن سقوط شجرةِ العلم، وتأخِّر الأوطان؟!
على مؤسسات التعليم أن تقوِّم مفاهيم التعليم من أساسهِ بحيثُ يكون العلم لتنمية الذات الإنسانية، وفاعلية العقل في إبداعهِ، وحرية تفكيره، ونقده، ورؤاه، وتدبّره لا أن يكون العلم للشهادة أو الوظيفة وهو المفهوم الذي أضرَّ بالتعليم أيَّما ضرر، وأصاب العلمَ في مقتل.
أقولُ لمؤسسات التعليم: إن الأوطان أمانة على عواتقكم، فإن لم تصلحوا مفاهيم التعليم فلن تقوم للأوطانِ من قائمة في سبيل التحضُّر والحضور التاريخي الفاعل، وإن لم تسعوا جاهدين لوقف ديدان التعليم فليس من المجدي أن تخططوا للتنمية لأن الخطط ستكون في أيدي هذه الديدان..!