قيامة اليرموك

يوسف حطيني | أديب وناقد فلسطيني


1 ـ الأسود
هكذا كنّا
نرشُّ الملحَ ذاكرةً من الشُّرُفاتِ
نمسحُ دمعةً حرّى بأطيافِ الزّغاريدِ
الّتي انطلقتْ منَ الأسوارْ
هكذا.. كنّا نودّعُ غصنَ زيتونٍ
إلى مثوى قيامتهِ
ونرثي صورةً مزروعةً كالنّجمة الثكلى
على حُزن الجدارْ
هكذا كنّا
نعضُّ على جراحِ الإخوةِ الأعداءِ
ننسى طعنةَ المقتولِ للمقتولِ
في وضحِ النهارْ
هكذا نمحو خطايانا
ونرتقُ جوربَ التقسيمِ
بين القطّةِ الكَسْلى
وفأرِ الحقلِ..
كي نخفي الكآبةَ عن جفونِ الجلّنارْ
هكذا كنّا
نرى اليرموك في دمنا..
فلسطيناً صغيرهْ
نجمع الدمعاتِ من حرّى مآقيِ الأمهّاتِ
ومن شوارعِهِ حجارةَ عودةٍ
كي نرقَعَ الآمالَ في ثوبِ المسيرهْ
هكذا كنّا وعشنا:
"ناوليني يا صفيّه
كاسةَ الشّايِ
ولا تنسيْ عروقَ الميرميّهْ"
لم نكن نرضى بأنْ نغدو
شراعاً في اغترابِ السندبادْ
هكذا عشنا زماناً
قبل أن تُطوى أغانينا
برايات السوادْ
*  *  *  *  *

2 ـ الأحمر
هكذا صِرْنا
كما يتحدّث الغرباء عن دمنا
بلا ثمنٍ نموتُ على الرّصيفِ
ونشتري حلمَ الرّغيفِ
بطلقةِ الموتِ الزؤامْ
نحتسي من ذلكَ الوجعِ
المكدّسِ في العظامْ
يا أبي
لا دفءَ يسترُ عُرْيَنا
إلا جراحٌ نازفهْ
لا ماءَ غيرُ الدّمعِ
يلمعُ في العيونِ الخائفهْ
لا أكلَ إلى ما ذَرَتْهً الريحُ
بعدَ العاصفهْ
صرنا سبايا المُرْعِبِ المسكونِ
في تكبيرةِ الإحرامِ
لا .. لا بسمةٌ سمحاءُ..
لا بُشرى تزيّن وجهَهُ
أضحى يعلّقُنا على أسوارِ قلعتِنا
خفافيشُ الظلامْ
يا أبي
أبوابُ إخوتيَ الكبارِ تغلقتْ
كلّ الحدودِ تغلّقتْ
في وجهِ يوسفِكَ الجميلْ
ما ثمّ غيرُ البحرِ
مفتوحاً على شدقيه يبلعنا
ويُرسِلُ حلمَنا للمستحيلْ
ويعيدُ تشكيلَ الخريطةِ بين دمعتِنا
وأحزان الهديلْ
هكذا خُضنا عُبابَ الغربةِ النّكراءِ يا أبتي
تركنا خلفَنا صوراً على الجدرانِ
دمعاً ترتوي منهُ عروقُ الآسِ
صرْنا يا أبي
نقتاتُ في ذاكَ الصقيعِ اللقمةَ الحمراءَ
نبحثُ عن بقايانا
ويهزمُنا بياضُ الثّلجِ
يا لتعاسة الشهداءِ
حين يلفّنا وطنٌ بديلْ
يا قلبُ هل في شارع اليرموكِ،
متسعٌ لتنمو في عيونِ البِرْكةِ الحمراءِ
أعناب الخليلْ؟؟
*  *  *  *  *

3 ـ الأخضر
هكذا نبقى
زهُوراً هزّها نزقُ الحياةِ فاينعت:
رجلاً يخفُّ إلى المخيمّ من جديدْ
يحتمي بالبيتِ من ريحٍ تدنّس عريَهُ
طفلاً يمدّ إلى ترابِ الحارةِ الثكلى أصابِعَهُ
ليعزفَ ألفَ عيدْ
يرتمي في حضنٍ والدةٍ
تعيشُ كزهرةِ الصّبّارِ كي ترقى
إلى حلمٍ بعيدْ
هكذا نرفُو شواطئِ حلمِنَا
نرسو على ميناءِ حاضرِنا
لكي نبني بيوتاً هدَّها زمنُ العبيدْ
هكذا نروي عروقَ الآسِ
كي يحنو الترابُ على الشهيدْ
ونجوبُ ساحاتِ المخيّمِ كي نرى
ظلَّ التحسّرِ في دموعِ الغائبينْ
نصنعُ من أغانيهم لحافاً
حنطةً
لهباً
وشالاً
كي ينامَ الليلُ في دمهم
ويصحو نحو حاراتِ المخيّمِ
في المدى صوتُ الحنينْ
هكذا عُدْنا نرشًّ الماءَ
كي نسقي ابتهالاتِ العصافيرِ الصغيرةِ
في المدارسِ
نشعلُ الجمراتِ في نرجيلةٍ نامتْ
على كتف الجدارْ
وغادرتْ مقهى فلسطين
الحكاياتُ التي انطفأتْ كأمنيةٍ بعيدهْ
هكذا عُدْنا
لتَملأ شارعَ اليرموكِ في رمضانَ
ضحكاتُ الصبايا..
فرحةُ الأطفالِ .. أغنيةٌ فريدهْ
قالها يوماً أبو الإسكندرِ
المزروعُ في ساحتها
عذبَ الصّدى
نشتهي من دفئهِ عبقِ الفلافلِ
قبلَ أن نمضي إلى غدنا
ونحملَ ظلَّنا صوبَ المدى
هكذا نبقى
ونبني ما تهدّمْ
فوق أنقاضِ المخيّمْ
نملأ الساحاتِ بالأعلامِ ثانيةً
ونكسو جامعَ القدسِ الرحيبِ
بدعوةِ المظلومِ والمنفيِّ
كي يشعر أنّا
قاب قوسينِ وأدنى
هكذا نرمحُ في وجهِ الزّمانْ
كلُّ شيءٍ في رؤى اليرموكِ
يغدو عندما نبني رسولاً
وجهُهُ ظلّ حصَانْ
يحملُ الأغصانَ خُضْراً
ثم يمضي
نحو شمسٍ
أشرقت
في عسقلانْ
*  *  *  *  *

4 ـ الأبيض
أبيض مثلُ القصيدةِ في كتابِ الماءِ
أحفظُهُ كفاتحةِ الكتابْ
أبيض كالماءِ لا فردوسُهُ حلمٌ
ولا أنهارُهُ قصصُ السّرابْ
هكذا سنكونُ بشرى في بياضِ الثلجِ
بعد الهاطل المسفوك من دمنا
على دربِ العذابْ
هكذا للقدسِ نرنو من هنا
أو من هنالكَ..
بعدما أدمتْ حناجرَنا
سفرجلةُ الغيابْ
كلَّ فجرٍ سوفَ نجلو
عن عيونِ الليلِ
أغنيةَ الظلامْ
سوف نشدو في ندى "اللهُ أكبرُ"
سورةً نرسلُها من مسجدِ القدسِ
إلى نصرٍ يخبّئهُ الغَمامْ
وسنذرو في بياضِ الفجرِ
أوتادَ الخيامْ
شرفتي كانتْ.. وما زالتْ
وتبقى قبلةَ الزيتونِ
والدّفلى
وأصداءَ الكلامْ
شرفتي الثّكلى تُغَنّي للسّلامْ
وتعدّ النارَ إيذاناً
بشمسٍ تحملُ البشرى
إلى برجِ الحمامْ
شرفتي تغفو على حلمِ الحناجرِ
وهي تصرخ م بعيدْ:
يا شهيدْ
نم قليلاً..
نحن أهلٌ للذّمامْ
شرفتي تحمي جناحَ القبّرهْ
والشّهيدُ السّاهرُ المطعونُ
يأبى أن ينامْ
في ظلام المقبرهْ
أخبِروهُ يا رفاق الدمِ والأوجاعِ
والحزنِ الجميلْ
أننا نبني ونشعلُ أضلعاً حرّى
ولا يخبو الفتيلْ
أخبروهُ أننا من شارعِ اليرموكِ
نمضي نحوَ ذاكَ الأبيضِ الفجريّ
في طهرِ الحقولْ
أخبروهُ أننا لن نخذلَ البرقوقَ
في دمِهِ
ولا حزنَ النخيلْ
أخبروهُ أننا
ـ من أجل أن يغفو قليلاًـ
سوف نرمي ما تبقّى من ذَماءِ الرّوحِ
كي نسعى إلى حضنِ الجليلْ.

تعليق عبر الفيس بوك