تجربة الشعر وشعر التجربة:

قراءة في "هلوسات خارج التغطية " لـنور الدين ضرار (2)



الشريف ايت البشير| المغرب

    وبقدر ما كانت للتكنولوجيا الحديثة أهمية كبيرة في ترسيخ الديموقراطية وحقوق الإنسان، على الأقل فيما يتعلق بالحصول على المعلومة والتعبير عن الرأي الشخصي .. بقدر ما كانت لها مساوئ أكيدة على تذوّق الشعر وتلقّيه؛ إذ على اعتبار أنه حالة إنسانية وإنسانية فقط، وبمعزل عن الإمكانات المتطلّبة والمستلزمة لصناعة الخطاب، أصبح كل من هبّ ودبّ ينشر غسيله في الفضاء الأزرق مع توصيف مقترحه  بما يشفع له التصنيف الأجناسي الذي يخصّ هنا الشعر وغيره من الأنواع الأدبية والجمالية ـ الفنية الأخرى .. قلّة هم الذين يحافطون على ماء الشعر، يحافظون على ملحه ودمه ،بتعبير محمود درويش في حدّه الشعر. الشاعر نور الدين ضرار واحد من هؤلاء الأفذاذ الذين يحملون إرثه ويستسعفون بالعبارات المتاحة والألفاظ المنثالة معجميا وسيكولوجيا التجربة المخصوصة والمفتوحة على كل أفق إنساني ما دامت تنوب مناب المجموع في تحديد الرؤية إلى العالم وإلى الحياة..  كل ذلك ينجزه في طقسية من الرواقية تمجّد الإنصات والصمت، حالة تذكرنا بأبي حيان التوحيدي " لما سئل [...] عن أحوال أحد أصدقائه [..] أجاب بدون تردد: " المسكين أدركته حرفة الأدب "، وكان يقصد بذلك عالم العزلة والصمت والفاقة والخوف، وما يستتبعه من ضغائن وحروب معلنة وسرية" (9). . كما أن الشاعر يضمّن تجارب الآخرين كانت قد أكسبته القدرة على صياغة الشعر في ألق استعاراته وجنونه وترميزاته.. وفي انثيال موسيقاه. إن الشاعر نور الدين ضرار حضر فيه ما غاب عن كثير في مشهدنا الشعري المغربي؛ حضر فيه شعر الصحراء وشظف العيش، كما حضر فيه شعر الصنعة المتاخم في التصنيف والتوصيف لشعر الحداثة على العهد العباسي.. فهو كلف بالعبارة كلف البحتري وأبي تمام.. وكلف باختراق البنيات الثقافية والتشكيك في ثباتها على غرار أبي نواس عبر تلقّف لحظته المحتفية بالخمرة في تسخير الجسد لحالة من مديح التسكّع، تجعل التجربة مفتوحة على كثير من الذوق الغربي في حالة الغجر والبوهيميين والشعراء التروبادور، أصحاب الأرواح المتوثّبة والمتوفّزة في إطار الإحساس بكثير من القلق تّجاه الوجود المفعم بالاستفزاز ومصادرة الذات في لحظة احتفائها بالقيم النبيلة الذاهبة نحو ذرى الجمال والحرية.. شاعرنا نور الذين ضرار رهيف الحسّ رهافة ورقّة جعلته شفّافا إلى حدّ الانذباح حينما يلامس خدّه جناح الفراش.. إنه يرث قلق المتنبي جاعلا من قصيدته رقعة أو سجّادا سيان، كأنه الرمش الذي يرفّ جراء هبوب رياح الغدر والذئبية.. مما يجعله في الغالب يجترح الغضب وينحت خطاب السخط واللعنة على عالم لم يبوّئ المسارات النبوئية إلا الجراء والكلاب الضالة المتربّصة في المنعطفات المفضية إلى الخلاءات الغاصّة بنباحها البليد.. حالة مرتجّة تستعيد وضع المتنبي وقلقه هبّت عليه الرياح فاقتلعته، أو هي تستعيد وضع أشيلوس كمعادل موضوعي للديك المذبوح / لرجب إسماعيل توأمته الخرقة البالية في الاهتراءات والداءات والعلل وكل أنواع الخسارات في شرق المتوسط.. ولعلّ واحدا من طينة هذا الشاعر، في جغرافيا الموضوعات المستأثرة بهاجسه والمسكوب خياله في الفضاء الأزرق ليس كما يبتغيه الافتراض، وإنما كما تهجس به بلدان المتوسط ، يحمي القصيدة والخيال الشعريين من " الفضيحة ".. حيث في " انوجاده " الشعري توجد فسحة لقيم الإنسان النبيلة؛ قيم الحب والفرح والحرية والحياة..في إطار الكتابة عن شيء غامض لعلّه السعادة وسط ظلام حالك وقاس، كتابة تعانق الأمل وتشعل الشمع وتلعن الظلام، وكأنها حالة من التعبير عن الضجر بإصدار لغة التأويل والرفض في الآن نفسه، هو ضيق من العالم لم يعد هناك من مبرّر للإقامة فيه ولا الانتساب إليه.. عمل من شأنه أن يدفعني كمتلق إلى الأمل في الحياة، ما دامت الرؤية الحالكة للعالم تدفع باتجاه هذا النقيض.. يكون على الأقل ضدّ نرفال " المرح " الذي دفعته حالته إلى حبل المشنقة..
     في ديوان الشاعر " هلوسات خارج التغطية " (1) ثلاث محطات تقتسم طوبوغرافيته وتحتفر مرجعية عاهلة بالمفهومي؛ تتعلق الوقفة الأولى ب " سنوبيا " أي ما يقابله في الفرنسية: ـ snobisme ـ وهو المفهوم المترع على كل ادعاء يجعل الذات متنفّجة اجتماعيا خفيفة أمام تمظهرات " الأنا "سكنتها علل الأهواء والوجاهة المتسلّقة في إطار التحضير للانتحار الجميل. والوقفة الثانية تخصّ " كوسموفرينيا "، حيث التركيب يمزج بين الكوني والمفارق في فداحة النفسي، أي المتناقض حدّ الانذباح على الحجر، بابه " العقدة " بالمفهوم السيكولوجي، أو هو المفهوم الأقرب إلى المركّب بالمعنى الذي يطرحه إدغار موران، أي complexe. في حين ترتبط الوقفة الثالثة ب " فنطازيا "، الحلم والاستيهام، هي هناك في ذاك الإنجاز الأصيل الذي معه تكون خفّة الريح قد وقّعتها الجياد والأحصنة نسيما يدغدغ حوافّ الوجنات اهتزّت من أثر الحركة المشفوعة بخليط من النخوة والشجن..
    تستعيد القصيدة الأولى " سنوبيا الكائن الأوحد " التنويع المعجمي للفط المركزي في العنوان باعتباره نصا موازيا، حيث تداخل المدلول في دالّي: الهلوسات من جهة، والهذيان من جهة ثانية. ليصبح النسيج على مقاس الجسد، حيث النص يتم تقسيمه إلى خمسة بحسب عدد الأحرف المشكلة للفظ " هذيان "، له خاصية الطهر والصفاء الروحي، لا يمكن التعبير عنها إلا بهذا العدد الملتبس بالقدسي، هي الكتابة الشعرية العاهلة بالوعي المرجعي في بعده الفلسفي واللساني معا حين يهجس بالعلاقة الضروية أو الممكنة أي الاعتباطية أو أحيانا المعلّلة بين الأدلة ومدلولاتها، تصبح هنا محتمية بالإيتيمولوجي في إطار التفكيك وإعادة التركيب درءا لأي منطق يمكن أن يحتمي بالصدفة. هنا " هذيان " يصبح حالة مسكونة بالإيحاء ومكتنزة بالمعرفة، على اعتبار ذهابها إلى الوعي الحاد بأونطية الشاعر الذي يذهل أمام العالم، فلا يملك إلا الانكفاء على الذات في استقراء أوجاعها ومنغّصاتها بحثا عن "الفارماغون" الدّرّيدي ـ نسبة على جاك درّيدا ـ  المنبثق من العمق حيث في القاع يندسّ الحس الإنساني المفعم برقّته وانفعاله الحاد..
    هكذا تكون (الهاء) للتجسير  والتواصل كأنها " الألفون " ـ Allophone ـ . إنها أيضا هبة الالتباس في خلاسية الزمن الجامع بين الاسم والفعل، بين الثبات والحركة، باعتبار (هاكم) اسم فعل أمر. كما الهاء هنا حافة الفناء تجعل الشاعر في كامل الهباء:
         فكل أعماري استنفذتها. ص10
       (الذال) للإشارة. إنها الحضور في الغياب. الأسى في العزلة. هي ذاك الامتلاء الممكن في سديم الآلهة كان الأثر نطفة أو نقطة فوق الهندسة كأنها القرن الوعد..
     (الياء) كرسي الروح في غربة الأشياء ألبست العين نظرتها فاستنكفت الوحي على أعتاب النبوءة، فيها شرق الخطو فكان الضلال في الدروب الموحلة.
    (الألف) رتق لصرة السماء، في مداها الشاقولي اجتراح الأرض على وقع إيلاج/ اختلاج الأزمنة كانت العين النجمة، العتمة، العثرة، الخيبة، السقوط والجنون..
    (النون) كفّ السماء جعلت الغمر هبة الوجود، ناصية الروح اختلجت في الدّنّ واستنفدت نخبها، صبوتها " على حافّة السماء ". ص19.
     واضح بأن الشاعر له لغته المخصوصة هنا، قد يقتسم المدلول كحالة إحساس مع الآخرين، لكن الدال هو تجربة موقوفة في القول والصياغة، يجعل التجربة تستصدي القول الناجز للّتواني " ليفناس " بأن " الكاتب ينتمي إلى لغة لا يتكلمها أحد " (10). لغة بقدر ما تحتفي بالجنون، بقدر ما تستضمر جانبا حرّيفا من العقل، حالة تؤكدها العناية باللغة، ليصبح كل هذيان هو تعقّل في الآن ذاته، الهذيان الذي ينثال في بنية معجمية تجعل الهلوسة من عائلته.. وليس ذلك غريبا أن تكون للهذيان علاقة بالجنون في النظرية النفسية بغضّ النظر عن مسألة التراتب: " في التصور الفرويدي، الهذيان هو أقلّ من الجنون، أو إنه نقيضه وضدّه، فهو محاولة في تنظيم الجنون. وبهذا المعنى، فكل هذيان إلا ويتأسس على صوغ نظري ما، كما أن كل عمل نظري إلا ويتنظّم بجزء من الهذيان". (11) وكأن ديوان ضرار بهذا الصنيع هو هبة اللاوعي الذي يحتفي بالظلال والمهمّش والمسكوت عنه وينتصر لخطابات الفن مادامت تلك هي القنوات التي تمظهره وتجلّيه. يذهب بيير بايار إلى أن " [...] الهذيان هو تشكيل للاوعي. ويستتبع هذا القول أن نفكّر في حلم أو استيهام أو فلتة لسان، أو الأكثر من ذلك أن نفكّر فيه كما نفكر في صورة عمل أدبي، ولا ينبغي لنا أن نفكر فيه باعتباره مجرد اضطراب في الفكر أو باعتباره حدثا معزولا عن الخطاب". (11) ص 187. هكذا وباستسعاف المصطلحات المترحّلة من خطاب إلى آخر، يمكن الذهاب إلى أن المفاهيم المعتمدة في لسانيات " يالمسليف "  تفيد كثيرا في هذا الصدد، حيث يمكن اعتبار اللاوعي بمثابة المضمون والقصيدة شكله، لنكون بالنهاية أمام شكل المدلول أي لاوعي القصيدة باعتباره دالا يمنح نفسه بكامل الغواية للمتلقي. وقصيدة الشاعر ضرار أي دالّه تحدّ من فوضى العالم لأنها تنظّمه وتحوّل العفونة إلى جمال، وكأن وظيفة الشعر تصبح مع هذه التجربة وغيرها معلّمة أن علاج الأحزان قد يتمّ ايضا بالصدمة، ما دامت الحقيقة جرحا لا بدّ من هرقها صرفا..

 

تعليق عبر الفيس بوك