على قارعة القدس

د. جوخة الحارثية: الشعر رمز المقاومة والنضال في فلسطين 

تحقيق : سعيد المعشني

خُذْ كل شيء ما عدا الهوية العربية ، خذ الأرض و الثروة  لكن -كن على يقين تام-  بأن الذاكرة العربية  التي تحسبها غافلة ليست كذلك، فلا تعجب منها، فهي بالفعل تقف عند كل صغيرة وكبيرة – ماخلا وجه الله- الذي أحصى كل شيء علما، فهي  التاريخ  الذي يسرد الحقائق والوقائع والأحداث حيث ترتبط ارتباطا وثيقا بالأدب فهو مرآة عاكسة للتاريخ،  الأدب دائما يقف مع  الإنسانيّة، فهو الشعور والحضور أو بمفهوم آخر هو اليقين التام  الذي يُخْرج الذات من اللاوعي إلى أسمى مراتب الحس واللذة، و في هاتين المرحلتين  يصل الإنسان إلى ذروة الإنسانيّة التي لا تقتصر على العواطف بل تتجاوز الحدث التاريخي  المرتبط بالفن الذي يخرج إلينا عبر  تعابير شتى، لكي ينهال إلى ذهن الوعي الجمعي بعد الاستقراء المُمَحص  الذي تتبعه سلسلة من العمليات ،فتبدأ بالإدراك ، فالشعور، ثم  يولد الانفعال الذي يصدر  إزاء ردة الفعل على ضوء نظرية نيوتن التي تقول:  "لكلّ فعل ردّة فعل .."  إذًا التاريخ هو الفعل  ، والأدب هو الذي يجسد ردود الأفعال الصادرة من قبل  الأدباء والشعراء الفلسطينيين تجاه الاحتلال الصهيوني، وفي هذا التحقيق سلكتُ مسلكًا يبعد قرابة مليون فرسخًا عن مجال السياسة ، فلستُ بصدد طرح القضية وإشكالياتها التي لا حصر لها؛ لأنني على يقين تام بأن بعضنا سئموا الحديث عن القضية الفلسطينية ،  فأعرضوا عنها ونَفَروا منها  إلا السالكين إلى معراج الإنسانيّة أولئك الذين خرجوا من رحم المجتمع. "خرجوا" لا يعلمون  شيئًا  ولا يدركون ما حولهم!  لذا فقد  نَرى  تقلب  وجوههم  في سماء الشرق الأوسط، تُرَى إلى أيّ قِبْلَة سيولون وجههم؟  لا أعرف، أما  في هذا التحقيق أقدّم لكم قِبْلَتان عربيان حول القضية الفلسطينية  الأولى: " قِبْلَة التاريخ" والثانية :"قِبْلَة الأدب" ،وإضافة إلى ذلك تناولنا القضية بشكل عام.          

 

دخول القدس

 ذكرت د. ناهد عبدالكريم أستاذ  التاريخ الإسلامي المشارك بجامعة السلطان قابوس: أن القدس  تأسست  على يد  اليبوسيين ، وهم أحد فروع الكنعانيين،  ولم يُمَكنْ ذلك لليهود دخول القدس إلا  في وقت متأخر من الزمن قبل حوالي 595 ق. م، حيث كانت آنذاك من أرقى الحواضر العربية.

ذاكرة البداية

 وأشارت د.ناهد  إلى  بداية مرحلة القضية الفلسطينية  التي ظهرت في  مرحلة  تاريخية مبكرة  إزاء فكرة قامت على مرجعية دينية  تهدف إلى إقامة دولة لليهود في الشرق الأوسط، حيث هاجروا  اليهود من شتى البلدان العربية والغربية ، و كانت فلسطين خيارًا أمام العديد من الخيارات، ويرجع التاريخ فكرة تجميع اليهود في موطن واحد إلى هتلر  علمًا بوجود معارضين له من اليهود آنذاك،  وما لبثت  حتى تسارعت جهود البريطانيين الذين سعوا  إلى تأييد  إسرائيل ومنحهم  أحقية الإقامة في موطن عربي، حيث أنهم  قدموا   شيئا  لا   يملكونه  وهي " فلسطين"   لمن لا يستحق  وهم "الإسرائيليون"  وقد نتساءل، على حساب من قدمتها؟  بالفعل ، هي على حساب الشعب الفلسطيني الذين طردوا من أراضيهم ، ليصحبوا لاجئين  في مخيمات أو مشردين من ديارهم.

ذاكرة حاذقة

 وقالت د. ناهد عن  الذاكرة العربية :هي التي لا  تسجل فيها القضية الفلسطينية  بمحض  العواطف الإنسانية  فقط، بل هي  التي تستند  على جملة من  الوقائع و الأحداث التاريخية الواضحة ، فهي ليست مجرد قصة مؤثرة ، بل هي قضية ذات جذور متأصلة  في عمق التاريخ مما يجعلها  أكثر   القضايا حساسية  على الإطلاق، فعندما نتناولها  يلازم كل  واحد  منّا  شعورًا  بالألم والحسرة مع الرفض القاطع  لفكرة  لجوء  أصحاب الأرض " الفلسطينيين"   إلى  مخيمات في بلادهم أو رحيلهم  إلى بلد ليس منهم، سواء كان بلد عربيا أو غربيا.

بين الذاكرة والميعاد

 أوضحت د.ناهد  كلنا  نسعى  إلى تأييد حق الفلسطينيين للعودة ،بلى، فالقضية حية طالما  تصاعدت الأحداث، فمنذ  الوهلة الأولى التي كان يبحث فيها هتلر عن أرض لإقامة دولة لليهود عندئذ  كان السلطان العثماني  "عبد الحميد الثاني" رافضا لفكرة إقامة دولة قومية لليهود، فأدرك هتلر صعوبة الأمر ووضع  احتمالات أخرى من بينها  " قبرص" والكانغو" وغيرها، إلا أن بعض من اليهود  أظهروا تمسكهم  وإلحاحهم  الكبير  للهجرة إلى فلسطين لأمر غرس في أذهانهم وزعمهم  أنها  "أرض الميعاد"، عِلمًا بأن الفكرة منسوبة إلى أحبار اليهود المأخوذة من  فكرة   " السبي البابلي" التي تشير  إلى حادثة سبي اليهود في  زمن "نبوخذ نصر"  وهو أحد ملوك الكلدان ، وعن طريق هذه الإشارة  التاريخية  تسارعوا  اليهود  نحو فلسطين باستخدامهم عدد من الحجج  التاريخية، بالإضافة إلى الحجة المرجعية التي  تتجلى  في  صورة  الأرض  التي  وعد الله  بها  اليهود  مع  ادعاءهم  أنها  مذكورة  في التوراة ، فهي خير مبرر يدفعهم باتجاه فلسطين.  

جدار الموت

وتطرقت د. ناهد إلى الحديث عن إسرائيل المعاصرة ، أنه لا يخفى علينا أنها   قضمت  مساحات هائلة من فلسطين، فدمرت، وأخرجت، وهجرت، وأقامت  جدارًا عازلا-ناهيك- عن المستوطنات التي تقيمها بشكل مستمر – وبالأحرى-  فلسطين لا يمكن أن تمحى من الذاكرة العربية؛  لأن الأحداث فيها  متجددة باستمرار، في  كل يوم  يولد  حدثا  جديدا ،   إلا أنه ما تزال الرغبة  في إعادة فلسطين، فهي حية في  قلوب الصغار قبل الكبار  ، بدليل  خيبت الأمل  الكبيرة التي تعرض لها  "غولدا مئير"  رئيس وزراء دولة  الاحتلال سابقا في قوله : " الكبار  يموتون  والصغار ينسون  ".

قِبْلة الأدب

وقالت د. جوخة الحارثية ، روائية، و أستاذ الأدب والنقد القديم المساعد في جامعة السلطان قابوس: لم يسكت الأدباء في فلسطين و  العالم العربي أيضًا عن جريمة الاحتلال الاسرائيلي، منذ  الوهلة  الاولى وفي مرحلة مبكرة  ظهر جيل من  الشعراء الفلسطينيين  الذين عرفوا باسم "شعراء المقاومة"  فالمقاومة أي: مقاومة الاحتلال ، فالشعراء هم الذين اعتنوا بالقضية، وهم الذين أدانوا في كل ما كتبوا الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

شعراء المقاومة

وقالت الحارثية  تحضرنا أسماء في غاية الأهمية مثل: "إبراهيم طوقان" وقصيدته" الثلاثاء الحمراء" التي بدعها  إثر  إقرار  حكم الإعدام على  ثلاثة من رجال المقاومة وقال في مطلعها: { لما تَعرّضَ نجمُكَ المنحوسُ  وترنَّحتْ بِعُرى الحبالِ رؤوسُ} ،  وأما عن أخته  فدوى طوقان التي كرست جلُّ شعرها في الدفاع عن القضية الفلسطينية، فكتبت بألوان متنوعة وأشعار مختلفة ،لكنها كلها تصب في لب القضية، وهي أن فلسطين أرض عربية محتلة.  فهذا الشعر أسهم في تشكيل الوعي لدى الشباب بالقضية  ولم يقتصر  على فلسطين نفسها، بل توسع  وانتشر إلى  العالم العربي، حيث كَتَبَ كثيرٌ من الشعراء  عن القضية، وبعد هذا الجيل المؤسس يأتي جيل آخر من الشعراء  الفلسطينيين مثل: سميح قاسم، و محمود درويش، وفي البداية كَتَبَا شعرًا مباشرًا و الذي نراه أوضح وأسطع مثالا عن النضال والمقاومة ومثال  عليه  قصيدة درويش "سجل أنا عربي"  وهي  القصيدة التي نالت شهرة ساحقة ليس في فلسطين، وإنّما في العالم العربي كله، وحتى أواخر حياته ظل  الجمهور في الأمسيات الشعرية يطلب من محمود درويش أن يعيد القصيدة ؛ لأنها شكلت  الأساس لأدب المقاومة، وأيضًا لفكرة رفض الاحتلال و تمسك الفلسطينيين بأرضهم والتي يقول فيها:{ سَجّل! أَنا عَربي، ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ،أطفالي ثمانيةٌ.. وتاسعهُم سيأتي  بعدَ صيفْ، فهلْ تغضب؟}   أي: أنا  متمسك بهذه الأرض، جذوري فيها، سأنجب أطفالي لكي يعيشوا فيها، بعدها اتخذ شعر محمود درويش منحى غير مباشر في الدفاع عن القضية الفلسطينية، لكنه  ربما أكثر عمقا ، فعندما نتحدث عن أدب المقاومة نحن أمام أدبيات ضخمة جدًا، ويندرج تحتها شعراء كُثر، أما عن شعراء فلسطين في الوقت الراهن،نتحدث عن تميم البرغوثي  وقصيدته "في القدس" التي انتشرت انتشارًا واسعًا عبر  وسائل التواصل الحديثة في  الآونة الأخيرة.

الصهيونية

أكدّ  الكاتب والصحفي العماني علي بن مسعود المعشني، أن  القضية  الفلسطينية ليست قضية احتلال فقط، بل هي وطن تمّ انتزاعه من قبل غرباء ومغتصبين، هو ليس آخر احتلال على وجه الأرض في زمن الاستقلال وليست القضية تهجير الشعب من أراضيه عبر   توافق دولي بل هي قضية غرس مخلب وتثبيت قدم للصهيونية العالمية في قلب أمة يعلمون تاريخها وحضارتها وآثار نهوضها المدمر على مدنيات الغرب بفعل الرهان على الزمن فقط، بدون الحاجة إلى الخوض في مواجهات أو حروب نظرًا لما تحمله الحضارة العربية الإسلامية من مقومات دينية وأخلاقية لا تستطيع المدنية الغربية مجاراتها و مواجهتها، لذا عمد الغرب إلى غرس ما تسمى "بإسرائيل"  في قلب الأمة وفي جغرافية فاصلة بين عرب آسيا وعرب أفريقيا ليس بقصد الاحتلال والاستيطان وخلق وطن لليهود كما يزعمون بل بقصد التوسع وإعاقة أي مشروع حضاري أو نهضوي جزئي أو إقليمي  شامل للأمة بزعم حماية أمن "إسرائيل." ذلك الأمن الذي لا حدود له ولا تعريف جامع له ولا هوية له سوى شعار هلامي ترسمه أيادٍ خفية في قلب أمة تعاني من التراخي والضعف والخيانة من الطرف الآخر، لذا لا يقبل الكيان الصهيوني ولا يتوانى عن البحث لمعاهدة سلام أو اتفاقيات تطبيع -بل الأدهى – أنه يريدها فوق القانون باستثناء قواعد السياسة والقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية بين الدول.،حيث يكون هناك  لا قطع للعلاقات ولا سحب للسفراء ولا تقليل للتمثيل الدبلوماسي بين الكيان وأي قُطر عربي، فيوجب السماح للصهاينة بالتغلغل في مفاصل الدولة واختراق المجتمعات المطبعة رأسيًا وأفقيًا عبر اتفاقيات شاملة ولجان مشتركة لا حصر لها، وهذا ما يؤكد وظيفة الكيان الصهيوني في قلب الأمة وجسدها ويفسر هوسه للتطبيع بدعم وتهديد غربي ومباركة منهم؛ كون أن تجاربهم السابقة مع مصر والأردن فشلت إلى حد ما  في تطويع الشعوب واختراقها لحصانة تلك الشعوب لتراكم خزينة الكراهية والثأر في وعيها الجمعي.

مواجهات مباشرة

وقال المعشني، أتجه الكيان اليوم إلى أقطار الخليج والتي لا ثأر لها ولا رصيد نضالي لها ولا مواجهات مباشرة لها مع الكيان لإحداث اختراق في النسيج العربي وتحقيق تنفيس ومكاسب نفسية موازية لحجم الإحباط والتهديد والرعب الذي يعيشه الكيان نتيجة إنتصار سوريا على المؤامرة وتعاظم قوة وتأثير تيار المقاومة والذي تفوق على النظام العربي الرسمي وأصبح الرقم صعبًا في مواجهة الكيان الصهيوني وتقرير مصيره.

آفاق القضية

وأوضح المعشني ، أن  القضية الفلسطينية اليوم في أبهى حللها وتألقها وقوتها بفعل المقاومة ومسيرات العودة و صحوة الضمير العالمي وتشكل عالم اليوم كأقطاب منافسة لأمريكا والغرب، فالصهاينة الذين كانوا يصولون ويجولون بكل صلف فيما مضى ويستبيحون كل أرض وسماء عربية أصبحوا اليوم في أرذل العمر بفعل فصائل المقاومة والتي جعلت كل نقطة فيما تسمى اسرائيل على قائمة أهدافها، فشكلت بهذا التطور الخطير واقعا جديدا على خارطة الصراع العربي الصهيوني ووازنت الرعب بين الطرفين وشكلت هاجسا حقيقيا وهزائم حقيقية على الأرض لخرافة الجيش الذي لايقهر! لهذا تسارع الصهيونية العالمية اليوم الى تدارك الانهيار الشامل لقاعدتها المتقدمة إسرائيل بإحداث اختراقات في جغرافيا عربية بعيدة بقصد تسويق نفسها داخليا وخارجيا وإقناع نفسها بالحيوية والقوة والمهم هو خلق انشقاق عربي ومواجهات مجانية وصراعات مجانية أيضًا، بالنيابة عن الكيان الصهيوني والذي يسعى ويطمح من كل هذا  إلى الحراك المشبوه البائس بغية جني المكاسب بفعل تلك الحروب والمواجهات العبثية بين عرب التطبيع وعرب المواجهة.

عندما نتناول القضية  لابد أن  نعلم أنها  من  أكثر القضايا حساسية على الإطلاق ، لذا لا ينبغي علينا  أن نأخذ الأمر  من الوازع الديني أو القومي أو السياسي ونغفل الجانب الإنساني ،ضع في أولوياتك  ما حال الأطفال والشيوخ  والنساء؟  هل هم على ما يرام؟  ما شأنهم بالسياسات الغربية والعربية؟  لماذا خلقوا في  فلسطين ؟ هل ليصبحوا لاجئين في مخيمات !

تعليق عبر الفيس بوك