تجربة الشعر وشعر التجربة:

قراءة في "هلوسات خارج التغطية " لـنور الدين ضرار (1)



الشريف ايت البشير| المغرب

" أدركت أني لا أستطيع تغيير العالم، فذهبت إلى الكتابة ".. جان جونيه
    إن اللغة التي يوظفها الشاعر نور الدين ضرار؛ في صياغاته الاستعارية، وفي معادلاته الرمزية، غالبا ما يعود بها  إلى الحساسية الشعرية الجديدة التي لها سبق خلخلة يقينيات الشعر التقليدي؛ يعود إلى السياب باعتباره صورة أخرى لجوهر الشاعر الذي عانى الداء، كما عانى الغبن السياسي الذي سيكون بديلا لكل ما هو مجتمعي.. كما يعود إلى تصريف الألم والضجر من مدن لا تنتج الحرية بل مزيدا من العبودية والقرف.. إلى عبد الصبور، وكأنه يقول مرة أخرى مدننا مدن من نحاس، أو من حديد.. لقد كان الشاعر مهددا بالموت المادي نتيجة ضيق في التنفّس، موت يعتبر تتويجا لموت رمزي خضع له الشاعر في تجربته الحياتية طيلة إقامته بالصويرة، التهديد بالخنق من قبل سماسرة القروض ينتشون بكامل " الصّادية " لأنّات تترجم الإخفاق الوجودي فتحوّله ذات الشاعر إلى نصر رمزي مبثوث هناك في ذرى خيال القصيدة.. حالة من الضجر كان يواجهها الشاعر بكامل الغبطة لأنه كان يحيا البديل المتمثل في حياة هي نسغ الأصابع والمتخيل، كان يجد في ذلك سعادة تجعله يحسّ بغبطة الانتصار، وكأنه حين يخلق من الإخفاق انتصارا يسعد بالإقامة الوارفة في رحاب إمبراطورية الشعر، ضدا على الإفلاس المادي، وكأنه يقول على لسان إدوارد سعيد: " لعله شرط من السعادة لي ألا أكون مالكا ".
     هكذا ستكون القصيدة كما الخمرة وكما السكع استعارات حية وبديلة يصنعها الشاعر نور الدين ضرار بيديه كهبة يجود بها المتخيّل والإحساس المفرطين في نفي وجود لا يجيد إلا إنتاج لغة الإقصاء والنبذ..  فيغترب في شعره؛ أي في تسكعاته.. وفي توشياته.. وفي هلوساته.. كما في ومضاته.. (2)، ليشير بالبنط العريض وبأعلى الصوت: كم هي هذه الحضارة عاهرة، كم هي ابنة الكلبة تهب اللذة مصحوبة بإيقاعها الوجيب، بسيمفونيتها الذائخة إلى حدّ النرفانا لكل من هو مشبوه، وتدير الظهر لضمائرها الحيّة، لشعرائها.. فعل فيه استعادة مشبعة بالشبق كانت قد وقّعتها فلّة بوعنّاب بكل تضاريس الجسد ودروبه.. (3).                                              
      لقد كان الشاعر نور الدين ضرار محظوظا حين عرف منذ وقت مبكّر ضعفا في البصر، كان بمثابة الهبة الإلهية التي جعلت الوجود يغشاه بعيدا عن كل فضائحية وضوضاء في اللون، هو شبه عمى سيكسب الذات كثيرا من خفّة الظل  ومن الظرافة في عوالم شنق الرغبة هناك في مراتع سيدي حجّاج؛ كجغرافيا نبوئية تذهب إلى مستفبل اللثمة في فم عشتار. وهو كذلك  نوع من إحساس الاستعاضة بالنقص في مقابل كامل الوفرة في النزعة الإيروسية تأكدت في الدعابات الحادة مع زبناء الهوى حيث الإيلاج متباين؛ "هو" قامة شاقولية يبتغي دفء رحم البيت، مستحمّا في "ماء الحياة"، و"هم" في "انتصاب" أفقي يستعيد طقسية "الانتهاك" حيث ذاك السكون المروّع للموت في الحياة يترجمه الأورغازم بشكل حرّيف، ويترجمه جورج باتاي بشكل رمزي في أشعاره. وهو شبه عمى له حدّة الخطاب وعريه من النفاق الاجتماعي، عمل يتوئمه بضرير الشعر والمغرب فيه: بشار بن برد.. فقط ليفتّق الحواس وليحتفي بالحدس. لذا لم يكن أبدا اعتباطا الذهاب إلى "لاهور" (4)، بغية مديح الأبدية عبر أناشيدها الماتعة في الباطوس ومنه.. إنه شبه عمى موكّد ومضعّف في الوعي الحاد بالفراغ الذي تركه رحيل الأب، والذي سينعيه في قصيدة : "قال لي يوما أبي.. وكان على سفر" ( 5 ) وحيث الالتباس في الخطاب، ذاك الالتباس العاهل بتمجيد كيليطو له (6)، يجعل الأب رمزا في الذهاب إلى رحابة الحداثة الشعرية، عبر مديح الحزن والاغتراب والحلم والعزلة على شاكلة الأفذاذ في الشعر المغربي أيضا، كان لعبد الله راجع حظوته فيه وحصّته العادلة من الألم في مدينة لا تنتج إلا القيود والحروب.. هنا مع تجربة ضرار يصبح الذين أحبّوا ما أحبّوا : " حين زفّوك لأدغال المدينة / وذبّحوا في حنايا القلب حنينه". وفي الدلالة الحافّة، هو نعي يغرف منذ وقت مبكّر من شاعرية جنائزية ممعنة في تراجيديتها الفادحة لصلاح عبد الصبور؛ كلاهما أحسّ الغياب الفادح لمصدر التجلّي والوجود: الأب.. حالة ستكرّس نوعا من الانطوائية تفجّرها الأنثوية الثّاوية في الباطن كنوع من التعويض السيكولوجي يجده وارفا في الأم عبر خطاب تمجيدي موصول بحسّ ميتافيزيقي جارف نحو الرغبة في العودة إلى الفردوس ( فنطازيا المسافات).. (1)، كما في امتداد ذلك تماما، أي في رمزية ما يسمّيه تارة " الشجرة"، وأخرى "سيدة الأفياء الوارفة".. شبه عمى، إذن، هو بمثابة الهبة التي تجعله برزخيا في ذاك الغبش الجامع بين المتناقض.. ليس في حالة الزمن فقط بالإشارة إلى البينونة بين الليل والنهار.. وإنما وبالإضافة إلى ذلك في حالة الشعر حيث تسخيره ليقول الحياة والموت معا، ويهتمّ بهما في خاصيته الوظيفية.. فبقدر ما يحييه الشعر بقدر ما يقتله لأن به يذهب إلى الحقيقة، يذهب إلى النار في نزعة بروميثيوسية حارقة في الإبادة الأبدية للكبد.. ذهاب يجعله يتلاشى شهوة في التسكعات..  والتوشيات..  والهلوسات..  وهلمّ سفرا في مراتع الخيال بالاستعارة والرمز والإيحاء والإيقاع.
     سأتعرّف على الشاعر نور الدين ضرار من خلال نصوصه، التي جعلته حقا شاعر التخوم (ص34 مثلا)، وقبلها تعرّفت عليه في السنة الأولى من تسعينيات القرن الماضي، أي القرن العشرين، ترسّب في ذوقي جرّاءها أنه ذاك البطل الحالّ في المكان نتيجة ما يسميه الوجوديون "السقطة". حين جاء إلى الصويرة أيقنت برسوخ، منذ ذاك اليوم وإلى الامتداد، بأنه سليل الكروم، شاعر مشبع بالديونيزوسية في انتصاره للحياة وقر في رنّات الكؤوس وقرعها ومصمصة الشفتين في ترجمة العطش إلى الدوالي، تراءى لي وهو "يتلو الثريا كفاغر شره"، في استعادة التوصيف الجنوني والرائع لابن المعتز استبدّت به الخمرة أمام فداحة الصيام المعبّر عنه بالدولة في معادلته الرمزية.. كل ذلك سيجعله شاعرا ينصّص المدينة ـ موغادور؛ مدينة الحلم وبوسيدون.. ويحتفي بها على شاكلة الفذ "بيسوّا"، عاشقا لمراتع الحياة فيها ولمراسيها، مغتربا في ذاكرتها لاستعادة سير الأولين كحالة الطوفان المختزلة في الرمزية الهندسية ل "الشاليه دو جانو"، وكاستعارة في الآن نفسه لسفينة نوح، جعلتني في غيبة عن ضرار شاهدا على التحضير لإبادة هذه المعلمة حيث لم يعد الماء يلامس خاصرتها ولا يداعب سيقانها، بل ليكون الانتقال من سفينة الماء إلى سفينة الرمل أو الحجر سيّان، أي سفينة ابن عربي، السفينة التي تفطّنت إلى طبيعتها كلود أدّاس في استعارتها من قبل الشيخ الأكبر للحديث عن اللغة العربية ـ مجلة البيت (7)، كما في الاستعادة الكتابية للجابري حين ذهب إلى أن الأعرابي هو صانع هذا العالم.. (8).
يتبع.....

 

 

تعليق عبر الفيس بوك