مغادرة العفية إلى مسقط

 

  علي بن سالم كفيتان

كان الليل في العفية (صور) حالمًا وخاصة من على سطح ذلك الدهليز فالسماء صافية والنجوم متلألئة، بينما المهاجرون الأربعة مستلقون على ظهورهم ويلتهمون التمر المُجفف (البسر) الذي تتوفر منه كميات كبيرة في باحة منزل البانيان، شق ذلك السكون صوت شجي قادم من أطراف المدينة ... إنه فن المشعير (فن ظفاري للنساء) وهنا جلس أحدهم وانصت بحذر ثم سال الآخرين هل تسمعون ما أسمع؟ فعلا إنها نغمات فن من فنون الريف تغنى في صور وهنا سأل بعضهم البعض واستنكروا وقال لهم الذي لا زال راقدا على الأرض بأنّ هذه البلاد فيها الكثير من الأشياء غير المألوفة فأحسن لكم تناموا بكره وراكم صلاة جمعة وسفر وكان صاحبهم الخامس قد ذهب منذ حلول المغرب وأتى في وقت متأخر فسألوه عن سر تأخره وما الذي كان يفعله؟ فأجابهم بأنه ذهب لزيارة خالته المتزوجة من رجل صوري وأحضر لها هدية عبارة عن عبوة من السمن الخرفي وهنا زالت كل علامات الاستفهام فبيَّن لهم الرجل بأن هناك الكثير من نساء ظفار متزوجات هنا ويجتمعن بالليل ويغنين النانا والمشعير حنيناً إلى الريف وربوع ظفار بعد أن أجبرتهن الظروف للعيش هنا. 

وعند منتصف الليل قام الرجال الواحد تلو الآخر وهم يلهثون من العطش فالظاهر أنهم التهموا كميات كبيرة من البسر والمشكلة أن مخزن البانيان لا توجد فيه مياه وهنا انتظر الجميع حتى أذن الفجر فانسحبوا إلى المسجد وهم في حالة يرثى لها من العطش وهناك وجدوا المياه الموضوعة على باب الجامع فكرعوا منها حتى ارتووا وصلوا الفجر في جماعة وانتظروا حلول الصبح وعندها أخذتهم أرجلهم إلى سوق مسباخ وهناك وجدوا الحركة التجارية النشطة منذ الصباح فالماء يجلب على ظهور الحمير وهناك وفرة في المعروض من الأسماك وغيرها من السلع فاليوم جمعة والسوق يكون مكتظاً لم تكن لديهم الكثير من النقود فأخذوا نصف جراب تمر خلاص كزاد لسفرهم المتوقع عصر ذلك اليوم.

وهناك دعاهم رجل كريم للغداء معه فأصطحبهم الشيخ مسلم الغيلاني من السوق إلى مزرعة قريبة فاغتسلوا للجمعة وتوجهوا للجامع الكبير في صور، لقد انبهروا من هيئة الرجال هنا فالجميع في ثياب نظيفة ويحملون أسلحتهم فنادرا ما تجد رجلا لا يعتمر خنجراً مردفا عليها محزما معمرا بالرصاص وبيمينه بندقية أو سيف ومعظمهم متوسطي القامة تبان عليهم علامات السُّمو والانتباه إنهم رجال الشرقية الذين وفدوا من كل وديانها وجبالها وسواحلها وقراها لأداء صلاة الجمعة في صور العفية وعقب الصلاة اصطحبهم مضيفهم إلى بيته وأكرمهم وزودهم ببعض الثياب التي ربما تليق بهم عند الحضور إلى مسقط فهي محطتهم القادمة.

كان عليهم العودة سريعًا إلى بندر صور كي لا تفوتهم الرحلة فحضروا في الوقت المناسب بينما بدت السفينة شبه خالية فقد أفرغت كامل حمولتها في صور وزاد عدد الركاب إلى مسقط فغادرت بندر صور بعد صلاة العصر وبدت لهم جعلان بعنفوانها فلم يخف الركاب القادمون من الريف سعادتهم برؤية الجبال مجدداً فكانوا يتحلقون لرؤية القمم الشاهقة لجبال الحجر الشرقي وكم كانت سعادتهم عظيمة فمنذ آخر نظرة على جبل سمحان افتقدوا هذا المنظر الذي يفرحهم ويحسسهم بالأمان والشموخ معاً.

الركاب القادمون من صور يتحدثون كثيرا عن سوق مطرح ومرات يطلقون عليه سوق الظلام ويصفون بضائعه الكثيرة بينما الريفيون يستمعون وفي مرات قليلة يداخلون لمزيد من المعرفة وفي وسط الطريق بيّن لهم الربان العلوي أنّ على واحد منهم أن يتأكد من أوراق الإذن بالسفر التي سوف يصادق عليها مأمور الجوازات في مسقط وعلى ضوئها سيحصل كل واحد منهم على جواز سفر لأول مرة كان القادمون من الجنوب حريصون على أوراقهم التي لفوها بحذر وعناية في أطراف أحزمتهم، أما بقية المسافرين فكانت وجهتهم مسقط وليسوا عابرين إلى الخليج باستثناء اثنين سيستخرجون رخص سفرهم من مكتب والي مطرح.

وصلت الرحلة إلى مشارف بندر الخيران ومنها إلى مطرح فتوجه الجميع إلى السوق المكتظ بالمحلات والمتسوقين حيث تغلب عليه كثرة البضائع المكدسة في الطرقات والمناداة للبيع. كعادتهم تجولوا معًا ولكن رائحة المكان كانت منفرة فعندما تختلط رائحة الأسماك مع البضائع وزحمة الناس في الحر الشديد يكون الجو خانقاً وخاصة على هؤلاء الريفيين القادمين من الهواء الطلق والبيئة البكر......  وللحديث بقية بإذن الله 

 

alikafetan@gmail.com