لحظات الوداع الأخيرة

 

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

 

لَمْلَم أشياءه البسيطة، وودع أمَّه وصغارَه، وذهب إلى طرفِ القرية لتودِيع جَمَلَه الذي ظلَّ رفيقَ دربهِ الطويل، ووسيلة النقل الوحيدة للأسرة، هذه المرة ظلَّ الجَمَل مربوطًا في الشجرة التي تتوسَّط السهلَ المنبسِط المُطل على المدينة.. إنَّها المرة الوحيدة التي يُغَادِر فيها صاحبَه دون أنْ يترافقا، فمن اليوم وصاعدا سيتكفَّل رجلٌ آخر برعايته، واستخدامه لجلب حاجيات العائلة.

صَعَد إلى الأعلى، ولم ينزل الطريق المعتاد إلى السهل الساحلي؛ فقد حنَّ لوداع مكانٍ يحبه وأفنى في خدمته وصيانته جلَّ حياته، إنها عين الماء، فلا بد من وداع عين تيدبور قبل الرحيل، حضر على عَجَل، والناس بدأوا بالتوافد مع ماشيتهم، دخل إلى الكهف الداخلي؛ حيث النبع، شرب منه حتى ارتوى، وخرج إلى الطرف الأيسر من الجدار ليغتسل، وأخذ وضوءه الأخير قبل الرحيل، ثمَّ جال بناظريه إلى الأنحاء البعيدة، ليرى كلَّ ما يستطيع من الريف الذي بَدَا له جميلا وحالما في ذلك الصباح، أخذ مَطَارِقه وأدواته التي يعملُ بها يوميًّا لتشييد طرق الناس والمواشي على أطراف الماء، وخبَّأها في الكهف المجاور.

صَادَف أخاه الوحيد مع قطيع أغنامه، جلس إليه تحت ظل شجرة، فأخبره بكلِّ ما يجب عليه فعله في غيابه، وودَّعه وذهب. وفي الطريق، صادف الكثيرَ من الناس الرَّاجلين والراكبين، فلم يُبدِ لهم اهتماما كالمعتاد، لقد شرد ذهنه إلى ابنيه وأمه الذين تركهم في الكهف، ومصيرهم بعده، وما الذي ينتظره في طريق السفر ودار الغربة، كان لبسه أنيقا في ذلك النهار، مُعتمراً السدحات (خنجر ظفاري)، ومطلقاً شعره المتدلي على كتفيه، ورافقته عصاه في هذه المرة؛ فالبندقية تُرِكَت للعائلة للحماية من عاديات الزمان، كان جمال مُحيَّاه، واستقامته على الدين وطاعة والدته، مَدعاة لإلهام الكثيرين.

وَصَل البندر بعد أن مرَّ على صاحبه بن النقيب، مُودِّعاً وبيده ورقة التصريح بالسفر، وعلى ظهره زاد قليل، وبضع قطع من الملابس، صادف عددًا من الرجال المهاجرين؛ فرحَّب بهم النوخذة الصوري راعي الخشبة؛ حيث كانت السفينة مُؤجَّرة بالكامل للتاجر المعروف في ذلك الوقت باسم بانيان، وبها الكثير من البضائع التي تُنتجها ظفار؛ مثل: السمن والعسل والجلود والحبوب... وغيرها، وبالكاد يُوجَد مكان لهذا العدد البسيط من المهاجرين للخليج؛ فكان عليهم البقاء على ظهر السفينة؛ لأن الخن ممتلئ عن آخره.

أطلق راعِي العفية النواخذة حمد العلوي صيحاته للبحارة على متن السفينة لبدء عملية الإبحار إلى الشمال، كان الكوس رائعاً، واشتلت الخشبة من بندر ظفار بعد ظهر ذلك اليوم، مُعلنةً الإقلاع الى بندر سدح محطة التوقف الأولى؛ فهناك بضائع يجب تحميلها من سدح؛ أبرزها اللبان، وفي المقابل تم إنزال حُمولة من المؤن المطلوبة من تجار سدح، ونتيجة لهبوب الرياح الجنوبية الشرقية بشكل مثالي، لم يتأخر الرُّبان، وتم الإعلان عن مغادرة بندر سدح إلى صور العفية عاصمة الصواري، ومَوْطِن الربابنة؛ فكانت رحلة مُوفقة منذ بدايتها، لكنَّ اختفاء الجبال والدخول للُجَّة البحر مع ظلمة الليل وحركة الخشبة رُوحة وجِيَّة، أخذ من الريفيين مأخذا، فغلبت عليهم لغة الصمت وانتظار المجهول.

بالرغم من عدم إجادته للسباحة، إلا أنَّه ومنذ بزوغ الفجر من المحيط، ركب على الدقل (مُقدمة الخشبة)، مُدلياً قدميه دون اكتراث، وناظراً بكل عنفوان إلى الأفق الذي لا ينتهي، وكان يُسَاعِد البحارة أحياناً في شد الشراع وإرخائه؛ فالرجل ذو بنية جسدية قوية، ويحب العمل، بينما ظَل بقية المهاجرين لابدين على مؤخرة السفينة، ومتمسكين بأنفسهم جيداً، وقل طعامهم خوفاً من مشكلة قضاء الحاجة التي تتم في العادة في مكان مكشوف على حطبتين في آخر السفينة.

ظهرتْ لهم جزيرة مصيرة، ومن ثم رأس الحد، وهُنا استبشر الرُّبان بالوصول الموفق، وأعلن أنهم سيصلون عصرا إلى بندر صور، وبالفعل وصلت السفينة إلى الميناء المكتظ بالسفن والحركة التجارية، ونزل الركاب؛ فاليوم كان الخميس، والغد هو الجمعة، فأعلن الرُّبان أنَّ المغادرة إلى بندر مسقط ستكون في الغد بعد صلاة الجمعة، وعلى الجميع أن يُدبِّروا أنفسهم حتى ذلك الموعد؛ فالتمس المهاجرون غرفة من التاجر البانيان، فسمح لهم بالمبيت على سطح أحد مخازنه إلى اليوم التالي.