عبد الله العليان
في إحدى تغريداته قبل عدة أيام، يرى الكاتب والباحث مرتضى حسن علي اللواتي ما نصه: "إذا كان نقد الفكر ونقد العقل مطلوباً كما نادى عدد من المُفكرين العرب وغيرهم، فإنَّ الأهم هو "نقد الواقع"، ذلك أن البنية التحتية، بنية الواقع الموجود هي جذر الأساس لما يتشكل من عقل ويتكون من فكر، وهو الواقع الذي لا يُمكن لأية دعوة القفز عليه وتجاوزه إلا بعد فهمه واختراقه تمهيداً لتغييره".
لا شك أنَّ هذه الرؤية جديرة بالاهتمام والمراجعة الجدية لقضية الأمة العربية وأزماتها وتوصيف واقعها، وتراجعها وانقسامها على نفسها، ذلك أن تشخيص واقع الأمة، يعد من القضايا التي يجب أن تأخذ الأولوية للمراجعة، بدلاً من الهروب إلى أسباب أخرى، ربما ليست لها الأثر الأهم لما نحن فيه، صحيح أنَّ الكثير من الكتاب والباحثين العرب، حاول من خلال بحوث ودراسات ومؤلفات، أن يرد هذه المشكلات إلى ماضي العرب، سواء لجذور العرب المجتمعية التي تعيد إنتاج هذا الواقع الذي يعود إلى التاريخ السحيق، أو إلى أزمة العقل العربي الذي بقي في نطاق تلك العقلية الثابتة والإبقاء على تراثه كمنطلق لهذا التعامل، والبعض إلى غياب التطبيق الصحيح للإسلام، وبعضهم أرجعه إلى غياب الديمقراطية، والتداول السلمي للحراك السياسي، والبعض الآخر إلى عدم تبني الحداثة والعلمانية كما طبقها الغرب الرأسمالي.
الحقيقة أن الكثير مما قيل لاشك به جزء من الصحة في بعض منطلقاته، والجزء الأكبر من التشخيص الذي تحدثوا عنه، ليس دقيقاً لأزماتنا الراهنة، لكن رد كل أزماتنا إلى العقل والتراث القديم والجذور المجتمعية، يحتاج إلى مراجعة، والدليل أن الكثير من العرب الذين هاجروا إلى أوروبا ودرسوا فيها هناك، لم تمنعهم عقولهم أو أفكارهم أو تراثهم، من أن ينخرطوا في العلوم الحديثة، وحققوا نجاحات كبيرة، أوصلتهم إلى مستويات عالية من المكانة العلمية والفكرية، فعندما أتيحت لهم الفرص نجحوا نجاحاً باهراً، سواء في علوم الذرة، أو الطب أو العلوم الإنسانية أو غيرها، وجوائز عالمية إلخ: إذن رد أزماتنا إلى عقولنا، وجذورنا وتراثنا العربي، تحليلات غير دقيقة، وتحتاج إلى رؤية أخرى، لنحفر جيداً فيما وصلنا إليه، وندقق لماذا تراجعنا وتقدم غيرنا؟ وهو السؤال الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان، في كتابه الشهير الذي حمل هذا الاسم.
والعرب في بداية انطلاقتهم قبل مجيء الإسلام، كانوا أمة متناحرة ومنقسمة على نفسها، بين الفرس والروم، فوحّدهم هذا الدين، وأقاموا حضارة كبيرة أنارت للكثير من الثقافات والحضارات بعدهم، وفتحت الباب لهم للاستمداد، للنهوض بعدما كانوا في أكثر العصور انحطاطاً كما قال الكثير منهم، وهذا ما اعترف به الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في محاضرته في "ويلتون بارك" بلندن عام 1996، وهذا بلا شك يعطي الدليل أن ما يقوله البعض عن جمود عقولنا،أو حواجز جذورناـ أو عدم قبول تراثنا للعلم والنهوض والتقدم، كلها تحليلات لم تمس جذر الأزمة فيما نحن فيه، وكأنه هروب من الحفر المنهجي الصحيح لواقعنا الراهن، واعتقد أن ما نحن فيه، هو من واقعنا المعاش، وهذا الواقع من أفعالنا التي نمارسها، وهي غائبة عن الأفعال والأعمال الصحيحة.
فبعد الاستقلال، وقيام الدول التقليدية التي رافق بعضها وجود الاستعمار، لم تؤسس لنفسها مرحلة للنهوض والتقدم الذي كانت الشعوب في أمس الحاجة إليه، لكن للحق أن الاستعمار شجع الدولة التقليدية آنذاك في إقامة مؤسسات ديمقراطية، مثل البرلمانات والتداول السلمي للسلطة والتعددية والصحافة الحرة،... إلخ، لكن مع هذه المزايا الرائعة، وبعد ذهاب الاستعمار من بلاد العرب، ووصول الدولة القطرية للحكم التي خلفت الدولة التقليدية، فبدلاً من الحفاظ على الأسس والهياكل الديمقراطية والتعددية السياسية، قامت بنسف كل ما أقيم من هذه الهياكل التي كانت تسهم في النقاشات الديمقراطية، وأسست لنفسها نظامًا شمولياً وبعضها قمعياً، وتسبب هذا الأمر في تردي الأوضاع من خلال سياسات فردية، ابتعدت عن الحوار والديمقراطية والتعددية، وهذا بلا شك أسهم في قرارات أدت إلى أزمات وحروب وصراعات بين الدول العربية، بدلاً من الاهتمام بنقل أوضاع الأمة إلى آفاق أكبر وأرحب للشعوب.
أزماتنا ليس من العدل ولا المنطق أن نرميها على ماضينا، أو إلى عقولنا، بل إن هذه ترجع إلى أننا أسسنا رؤى من خارجنا أحياناً بالفرض والقسر والإرغام، وبعضها بسبب أننا لا نريد أن نسمع الرأي المخالف الذي يعد من الطرق الموصلة إلى المسارات الصائبة، وهذا من الحكم الماضية التي تقول "ما خاب من استشار"، فمشاكلنا من بنات أفكارنا ومن واقعنا، وبعضنا أخذ من الغرب، بعض مظاهر الديمقراطية، لكنها مفرغة من الأسس الديمقراطية؛ إذ الكثير من المظاهر الشكلية مزوّرة، ولا تعطي الواقع بحقيقته الصحيحة في الاختيار الحر النزيه، فالأمة أحوج إلى اختيار طريق المراجعة الجدية، فيما نحن فيه من تردٍ، ومن صراعات وتوترات ماضية وحاضرة، والتي جلبت لنا شماتة العالم ونظرته السيئة لنا وتزداد بدلاً من أن تتراجع، فعلينا الاعتراف بالواقع الذي هو نتيجة من نتائج سياساتنا وأفكارنا وغرور بعضنا في أنه يملك الحقيقة بين يديه في الكثير من المغامرات التي لم تأت إلا بالمشكلات والتراجعات والصراعات، وهذا ما نود أن يتم تصحيحه.
الحل لأوضاعنا أن نصحح المسار الذي رهنت الأمة فيه لعقود من الزمن، وأن تتاح الفرصة للخروج من واقعها، باختيار الواقع الإيجابي لوضعها القائم، من خلال المراجعة لكل السياسات الماضية التي أدت إلى ما أدت إليه، وهذا هو بداية الحل الناجع.