في حضرة البردوني:

 

من ينفض الغبار عن الأعراس؟ (1 - 2)
أ.د/ يوسف حطيني | أديب وناقد فلسطيني – جامعة الإمارات

دعني أغرّدْ فالعروبة روضـتي                    ورحاب موطنـها الكبير رحابي
فدمشق بستاني ومصر جداولي                    وشعاب مكة مسرحي و شعابي
  و سماء لبنان سمـائي وموردي                 بردى و دجلة و الفرات شرابي

أبيات جميلة واضحة الانتماء والهوية ، تمتلك القدرة على البدء ، أكثر من أي كلام آخر ، ونحن في حضرة الشاعر عبدالله البردوني الذي رحل عنا، وكان رمزاً من رموز الشعر العربي المعاصر ، وأؤكد منذ البداية على معاصرته الحقيقية ، علىالرغم من أن شكل القصيدة التي ارتضاها لشعره كان الشكل التقليدي الذي ورثناه ، وما ذاك إلا لأن هذا الشاعر العبقري انتمى إلى الحداثة والمعاصرة من خلال موضوعه ومفرداته وموسيقاه الشعرية .
وعلى الرغم مما يمكن أن يقال حول تأرجح الولاءات السياسية والعقائدية لهذا الشاعر ، وحول ركوبه المركب السهل ، خلال التطورات و التحولات التي شهدها اليمن ، وعلى الرغم مما يقال أيضاً حول مدائحه للسلطة المتنفّذة في العهد الإمامي ، وتأخره في الوقوف إلى جانب الدستوريين ، والجمهوريين فقد حافظ هذا الشاعر في جميع المراحل على نزعة التمرّد التي تجعل من شعره شعراً ثورياً يجابه الاستغلال ويشدو قصائد الحبّ لليمن السعيد الذي لا يبدو سعيداً في القصيدة البردونية الباحثة دائماً عن يمن أكثر سعادة و هناءة .
لقد كان هذا الشاعر عبقرياً يدرك مدى عبقريته الشعرية ويعتز بها اعتزازاً بالغاً . كيف لا ؟ والشاعر يدعو القصائد الخجلى فتلبيه ناسية خفرها وتمنّعها ، وهي التي كثيراً ما تصدّ الآخرين وتتمنّع عليهم، يقول البردوني مصوراً ذلك الخضوع المطلق للعبقرية الشعرية الفذة:
نافراتٌ  ينسـين عندي النفارا        واعداتٌ لا يسـتطبْنَ اعتذارا
أصبحت وحدها القصائد أهلي   صرن لي في الضياع حقلاً ودارا

غير أن القصائد التي أسلست قيادها للشاعر الراحل لم يكن شأنها شأن الزمن الذي حرمه بصره ، وعلى الرغم من ذلك فقد تمرّد الشاعر على عاهته ، عن طريق تجاوزها لا تحدّيها ، فالشاعر لا يرسّخ كونه أعمى ، إلا لماماً ، وهو كثيراً ما يقتدي بالمبصرين ، ويفيد إفادة كبيرة من التراث التمردي الذي يمثله الشعراء الذين رفضوا راهنهم و سعَوْا إلى تغييره ، ويستطيع المرء أن يقرأ في شعر البردوني إعجاباً شديداً بالرموز المتمردّة مثل المتنبي و يزيد بن مفرّغ الحميري وغيرهما .
و قد تجلى هذا التمرّد في شعر البردوني جرأة وسخرية شديدتين ، تفيدان كثيراً ، من ألفاظه المألوفة التي تقترب كثيراً من العامية ، مما يمنح شعره بعداً اجتماعياً جماهيرياً ، يقول البردوني يصف أحد المسؤولين الذين يقتاتون من دماء الشعب اليمني:
قيل مسؤول كبيرٌ       قيل مرشوّ و راشي
دخلُهُ في كل يوم       فوق أضعاف معاشي

لقد كانت حياة هذا الشاعر الكبير ، باستثناءات قليلة ، سلسلة من التمردات في وجه الداخل والخارج ، والشاعر يخوض حرباً ضروساً ضد العسس الذين يمارسون على الشعب استعماراً من نوع آخر ، استعماراً يتيح لهؤلاء أن يسلبوا الشعب لقمته وحريته و أمنه:
إنهم من بني البلاد .…ولـكنْ          يشبهون الغـزاة سلباً وزجّا
يدخلون البيـوت من كل ثقب          يسألون التراب من أين عجّا

إنه يدخل إلى التفاصيل الصغيرة في حياة المواطن اليمني ، في همومه اليومية ، في قلقه العادي الذي يجسد ثنائية المواطن / الضحية و السلطة / الجلاد ، ذلك الذي يحصي على المواطن حركاته ودقات قلبه . في قصيدة " سندباد يمني في مقعد التحقيق " يقدّم البردوني صورة لذلك الإنسان الذي أغفل ماضيه ، ولكنه اكتشف أن العيون كانت قد رأت وسجّلت ، فتحداها قائلاً :
كما شئتَ فتِّشْ أين أُخفي حقائبي            أتسألني من أنتَ ؟ أعرف واجبي
لدينا ملفٌّ عنكَ ..شكراً لأنكـم               تصـونون ما أهملته من تجاربي !

 وحين يتعلّق الأمر بالعملاء الذين يقتاتون لحم الشعب ، لايتهاون  الشاعر معهم، ويرفض أن يكون بوقاً يمجّد البطولة المزيفة ، فالبطولة جدارة و استحقاق ، وليست خديعة يمارسها الكُتّاب، ليخدعوا شعوبهم ، و ها هو ذا الشاعر المتمرد يتحدى وَهْم البطولة في نفوس من يدّعونها ، فيقول:
غَيْرَ رأسي أعطني رأس جمـلْ                    غير قلبي أعطني قلب حَمَلْ
ردّني ما شِئتَ ..ثوراً .. نعجةً                    كي أسمّيـك يمانيـاً بطلْ

ويرى الشاعر أن الصمت الذي يمارسه الناس الذين يُؤثرون السلامة ، هو صمت غيرمحمود إذا كان الأمر يتعلّق باليمن ، إذ لا يمكن للحياد الذي يعلنه بعضهم أن ينقذ اليمن،إذا مرّت به عاصفة من الاستعمار أو الاستغلال:
الصمت أنجى حَسَـنٌ إنما                    في نار صمتي يمنٌ مرغمُ
ما زلتُ أدري أنّه موطني                    لِمْ لا أناديه وعندي فمُ

وحين يضيق صدر الشاعر بما حوله ، إذ يرى استسلاماً في ظل العهد الإمامي البائد ، يقرّع الشعب ويحرضه على القيام بثورته ، طالباً منه ألا ينحني باللائمة على مستغليه لأن عجزه هو الذي دفع هؤلاء للتمادي في هذا الاستغلال:
لا تلـم قادتنـا إن ظَلمـوا                    ولُمِ الشعب الذي أعطى الزماما
قد يخاف الذئب لو لم يلقَ من                    نـابه كـل قطيـع يتحـامى
   ويَعِـفُّ الظـالمُ الجلادُ لـو                   لم تقلّـدْه ضحـايـاه حساما

ولا يتوانى هذا الشاعر عن إضاءة الطريق لشعبه حسب رؤيته لهذا الطريق الذي يرسمه الشعب بكفاحه المتواصل و تضحياته المباركة ، حتى يصل إلى فجر اليمن المنتظَر :
هكذا المجد تضحيات .. وغبنٌ                    عُمْـرُ من لم يخضْ إلى المجد ساحا
إنما المـوت و الحيـاة كفاحٌ                     يكسب النصـرَ من أجاد الكفاحا
(يتبع 2 - 2)

 

تعليق عبر الفيس بوك