د. صالح الفهدي
بعد عامين من انضمامه لجهة عمله، كانت المديرة العامة تشيد بأدائه، وتثني على الكفاءة التي أظهرها في عمله، فقال لها الموظف قولا دفعني لكتابة هذه المقالة لتأثري به، قال: في الأيام الأولى لانضمامي، وما يرافق تلك اللحظات من توجّس لتعامل المسؤولين في بيئة عملي، وارتياب للثقافة التنظيمية السائدة فيها، في تلك اللحظات مررت أنت ثم وقفت وألقيت السلام عليّ، وأتبعت ذلك ببضعة كلمات محفّزة ومشجّعة. يضيف "هذه اللّحيظات المعدودة تركت أثرا عظيما في نفسي إذ أشعرتني أنني في بيئة عمل تقدّر موظفيها، وتحفّز كوادرها، وتشجّع كفاءاتها، فكان من شأن ذلك أن يطمئن نفسي، ويهدّئ من روعي، حتى وصلت إلى المستوى الذي أضحى محلّ إشادة من قبل الإدارة العليا بعد عامين فقط"
وكما أثّر موقف المديرة العامة في نفسية الموظف، فقد أثّر كلامه في نفسي، لقيمته المعنوية على نفسية كل موظّف. فهناك من الموظفين من يجرّون أقدامهم جرّا إلى أعمالهم، ذلك لأنهم لا يلاقون التقدير من قبل مسؤوليهم، بل ينتظرون منهم أدنى هفوة وأقلّ كبوة..! ولطالما أصغيت لموظف أصبح منكود الفؤاد، منغّص المزاج، أصبح مجرّد جسد يذهب إلى العمل دون روح، لا يدفعه إلى ذلك إلاّ حاجة العيش، مردّدا قول الشاعر:
إذا لم يكن غير الأسنَّةِ مركباً/ فما حيلةُ المُضطَرِّ إلا رُكُوبُها
ولقد وصل حال بعض الموظفين إلى المرض النفسي الذي أصبح مرادفا لكلمة "عمل"، بسبب البيئة العملية المشؤومة، المحبطة نفسيا لهم، وقد قابلت البعض منهم حيث وصلوا إلى حالات لا علاج لها إلا بخروجهم النهائي إلى بيئة عمل أخرى أو تركهم العمل بصورة نهائية..!
يقول لي أحد الموظفين وهو بدرجة مدير أنه أصبح قد غير قادر على ممارسة عمله، يشعر أن الاكتئاب قد سيطر على نفسه، بسبب الخواء والإحباط في معنوياته..! وتقول لي موظفة بأن العمل قد أصبح يعني لها المرض بعينه، فما إن يذكر أمامها العمل حتى تنتابها حالة نفسية سيئة..! كما أنّ بعض الموظفين لا يقومون بأكثر من أداء "الواجب المقدّس" المقتصر على البصمة والجلوس على الكرسيّ، غاية ما يرجونه في يومهم هو انتهاء ساعات الدوام الرسمي..! فقد تركوا في كراسيهم أجسادا أريد لها أن تحرق طاقاتها، وتزهق أعمارها، إمعانا في تأديبها ومعاقبتها لأنها متمرّدة، شقّت عصا الطاعة..!
تركوا بين جدران أربعة تتقادم عليهم السنوات، وتذهب أحلامهم سدى بين سوداوية تلك الجدران، يتظاهرون أمام أبنائهم بأنّهم ذاهبون فعلا لأداء واجبهم العمليّ، بينما يشعرون بالغصّة في حلوقهم، والمرارة في أكبادهم..!
في مثل هذه البيئات لا يمكن لنا أن نتحدث عن شكلّ من أشكال الإبداع الوظيفي، أو الجهد التطويري..! لا يمكن أن نتحدث عن موظف مبدع، أو حريّة عملية، أو آفاق مفتوحة مشرعة الطموحات للموظفين، لأنها بيئات أفسدتها الأمزجة الشخصية، وعفّنتها الرغبات الوضيعة التي لا همّ لأصحابها سوى التنمّر والتسيّد على كفاءات إنسانية طموحة لو منحت المساحة الكافية من الحرية في الأداء والإنتاج والإبتكار والإبداع والتخيل لتطورت بيئات العمل.
إنّ البيئات العملية التي تتحكم فيها الأمزجة الشخصية، ويمارس رؤساؤها السلطة العمياء على مرؤوسيهم هي بيئات فاسدة، ليس للتطور فيها مجال، فهي بيئات تقمع الإبداع، وتعيق الابتكار، وتقصي الكفاءات، وتعرقل الأفكار المواكبة لروح العصر. وهذا الصيغة مناقضة تماما لإدارة المؤسسات المبدعة العصرية التي تعي قيمة الكادر البشري لأنه في نظرها أهم أصول المؤسسة، وأول مفاتيح النجاح، فأصبح التنافس في الاستثمار في الطاقات البشرية هو معيار الجودة والتفاضل بين المؤسسات.
وإذا كانت بعض المؤسسات وجهات العمل تتحدث عن الولاء الوظيفي، والرضا الوظيفي فهي لا تعي أسسه، ولا تعرف مصادره، ولا تدرك جذوره، وإنّما ترفع شعارات لا تفقه قيمتها..! فولاء الموظف ورضاه لهما أصول عميقة في الثقافة التنظيمية السائدة، وفي الممارسات اليومية، وفي القرارات، وفي القيم المؤسسية، وفي تطبيق هذه القيم.
أفصح ذات مرة موظف أجنبي عن أسباب ولائه للمؤسسة التي يعمل فيها قائلا: لقد حصلت على فرص أفضل في غير هذه المؤسسة برواتب أعلى، لكن التقدير الذي لاقيته من هذه المؤسسة هو سبب تشبّثي بها، فعندما مرضت لم تبخل عليّ مؤسستي باستئجار طائرة عمودية لتنقلني إلى مستشفى، وتنقل زوجتي لاحقا لتكون بجانبي.. إن ضميري لن يكون مرتاحا إن خرجت من هذه المؤسسة.
إنّ المنظمات وجهات العمل التي تقدّر موظفيها، وتشعرهم بقيمتهم، هي التي تبني الولاء والالتزام والرّضا في نفوس موظفيهم، فإذا خلت أية جهة من تقدير العاملين فيها، وتعاملت معهم وكأنما هم أجراء لديها فهي بيئات طاردة للكفاءات، منفّرة للطاقات، منحرفة عن طريق التطوير والتحديث.
يؤكّد أحد الاختصاصيين في طب المجتمع والصحة العامة بالقول: "إنّ بيئة العمل الإيجابية تولّد الإبداع؛ فالأجواء الإيجابية تزيد جودة العمل والإنجاز. ويضيف أنه خلال أحد لقاءاته بفريق عمله، سأل أعضاء فريق عمله عن أهم ما يبحثون عنه في بيئة العمل، فذكروا أربع نقاط، هي: التواصل والثقة والإهتمام والجو الأسري، فالموظف بحاجة إلى التواصل الإيجابي مع زملائه ومرؤوسيه في العمل، كما يحتاج إلى الشعور بثقة من حوله به وبقدراته وإمكاناته، وهذا يدفعه إلى عطاء أكبر، إضافة إلى حاجة الموظف للشعور باهتمام من حوله به وتقديرهم له، والرغبة في العمل ضمن جو أسري يسوده الود والاحترام.[1]
لقد تذكّر ذلك الموظف الذي ذكرته في أول مقالتي بعد عامين موقفا قد لا يراه البعض ذي شأن يذكر، لكنّ الأثر الذي تركه الموقف كان عظيما عليه، فقد أيقن حسب قوله بأنه عرف أن الجهة التي سينتمي إليها تقدّر كفاءاتها، وتدرك أثرهم على مسيرتها التطويرية.
وهنا أقول لكل رئيس وحدة أو منظمة أو جهة عمل أو أيّ كان مسمّاها: إن كنت حريصا على نجاح الكيان المؤسسي الذي ترأسه، وصادقا في سعيك على التطوير فعليك أن تجعل للكادر البشري فيها القيمة الأهم، والقدر الأعلى. وإن كنت لا تأبه إلا بمنصبك، ولا تكترث إلا بالراتب والميزات والعلاوات فأنت تنخر أساسات ما ترأسه، وسيأتي اليوم الذي سينهدّ فيه سقفه على من فيه، فقيمة الكيان المؤسسي بقيمة الإنسان، وما لم يلق الإنسان العناية والرعاية والاستثمار فإنّ مآل ذلك إلى الانهيار عاجلا أو آجلا.
لا تطالب الموظف بالإبتكار إن أنت كبحت من قدراته. لا تطالبه برفع الأداء إن أحبطت من معنوياته، لا تطالبه بالعطاء إن أعرضت عن أفكاره، لا تطالبه بالولاء الوظيفي إن سفّهت من قيمته. وإنّما عليك أن تجعل له شأنا رفيعا عندك، وقيمة عليا في الكيان الذي ترأسه. اجعل له مساحة من الحرية ليفكّر ويبدع، شجّعه إن أخطأ، وكافأه إن تميّز، وانصحه إن قصّر، لا تترصد له سقطاته وغفلاته، بل ترصّد لنجاحاته، وعطاءاته، فإن أنت أثنيت على إيجابياته أصلحت له سلبياته، وألقيت في ضميره الاستحياء من التقصير بعد ثناء، والإهمال بعد إشادة. أنشر ثقافة البيئات العملية المحفزة، التي تتعامل مع موظفيها على أساس من الاحترام والتقدير، البيئات الصحية التي تقوم على التعاون والتآزر والأجواء الأسرية المتكافلة. فوالله ما رأيت أعظم إنتاجا من المؤسسات العائلية التي يحرص كل فرد فيها على النجاح لأنه يشعر أنه يملكها. وتذكر أن منصبك ليس دائم فيها، وأنك بحاجة ماسّة لكل كلمة حسنة تقال فيك بعد أن تغادر تلك البيئة العملية، فابْن للّذكر الحسن، والسمعة الطيبة، فصاحب الخلق الأصيل في الميدان وليس خارجه، وتأكد أن النجاح الحقيقي هو أن تصنع جيلا بعدك يمتلك الكفاءات العظيمة لصنع التغيير في المؤسسة التي تفتخر بأنك كنت في يوم من الأيام رئيسا لها.
[1]- دارين شبير، بيئة العمل الإيجابية مركز إبداع، صحيفة البيان الإمارتية نشر بتاريخ 1 أكتوبر 2015.