علي بن سالم كفيتان
فرضت ظروف الحياة في منتصف القرن الماضي السفر بحثاً عن العيش وكانت بلدان الخليج أو كما يسمونها في ظفار "العالي" الوجهة المفضلة؛ فظهور النفط وتحسن البيئة المعيشية ولّد فرصاً جديدة للقادمين من جبال ظفار وتخومها، ومعظم المهاجرين من أجل لقمة العيش ليسوا متعلمين نظرا للظروف التي كانت سائدة في ظفار وغيرها من مناطق السلطنة، لذلك فهم يبحثون عن الوظائف المهنية التي باستطاعتهم إجادتها فكان الانضمام للجيش أو شرطة المطافئ "الحريجة" كما يسمونها في ظفار هو الهدف الأسمى. بينما انشغل الآخرون برعاية المواشي لكونهم قادمين من بيئة رعوية ويعلمون طرق التعامل مع الثروة الحيوانية فشيوخ الخليج وأثرياؤه في تلك الحقبة كانوا متمسكين برعاية المواشي والحفاظ على الموروث العربي الأصيل بكل أشكاله.
في ذلك الصباح المرير كمرارة العدم آفاق الرجل في الهزع الأخير من الليل وجلس حائرًا أمام موقد النار وبدأ ينبش جمراته الموغلة في الرماد عسى أن يجد واحدة تشعل له أطراف هذا الكهف المظلم فالكل نائم بينما هو قام لأنّ النوم لم يعد يجدي أمام الظروف التي يواجهها، لقد عافت نفسه الراحة منذ أعوام، فالديون تتراكم وتجار المدينة يطالبون بحقوقهم والمواشي تنفق من شدة الجوع نظرًا لمرور سنوات عجاف، فكما يذكرون أنّ الخريف لم تمطر سحائبه إلا عدة أيام فقط بينما جفت عيون الماء وزادت الصراعات بين الناس على الماء والكلاء وبدت الأرض شاحبة تفوح منها رائحة الموت.
لم تعد هناك خيارات أخرى ممكنة غير الهجرة إلى منابع النفط في العالي (دول الخليج) حزم الرجل رأيه قبل الفجر بقليل ورغم الخوف من المجهول إلا أنّ بعض تباشير السرور باتت على وجهه المتجهم منذ عدة سنوات. أيقظت خيوط الفجر الأولى والدته ثم بقيّة أفراد أسرته حلبوا بقرتين تدران كمية بسيطة من الحليب ومزجوه بالماء كعادتهم في هذه الأيام العصيبة بينما تكفلت ثمار شجرة التين المجففة في طرف الكهف ببقية الفطور وعند اعتدال الشمس أدار الراعي الريفي ظهره للجبل ويمم المدينة التي سيطلب منها الإذن بالسفر إلى العالي. كانت خطواته هذه المرة مسرعة والتفاؤل يعتلي جبينه المعفر بركعات الفجر منذ ذلك الصباح قابله بعض النازلون للبحث عن فتات المدينة والراجعون بقليل من المتاع على ظهور حميرهم المنهكة. لم يقف للتزود بالحطب من محطة الحطابين تحت العقبة كالعادة، وهذا ما أثار حفيظة الآخرين فما بال الرجل ذاهب خالي الوفاض للمدينة، فالحطب سلعة مطلوبة ويضمن على الأقل عشاء ليلة للأسرة المنتظرة في سفوح الريف وتخوم البادية بعد أن جفت ضروع المواشي ونفق معظمها.
قرر أن يواجه صاحب دكان المؤونة ويا لها من مواجهة صعبة، فالدين فاق الألف ريال فرنس (عملة تلك الحقبة) وهو مبلغ كبير ومع ذلك ظل بن تمام (تاجر الحبوب) واثق من أنّ الرجل وفيٌ، وسوف يقضي دينه هذه المرة قابله بنفس متقدة وسلام حار وقال له أبشر أنا قررت السفر إلى العالي وسوف أرسل لك من هناك كامل دينك، لكنني أرجوك ألا تقطع المؤنة عن الأسرة أثناء غيابي. ابتسم التاجر العجوز الرابض بين جواني الرز والذرة وقال: لا أظنك ستحصل على رخصة السفر، فالوالي متشدد هذه الأيام، ورخص السفر بعضها يأتي بعد سنة والبعض الآخر لا يأتي مطلقا بعدما اشعلتم فتيل الثورة في الجبال.
في طريقه إلى الحصن زار صديقه سالم بن النقيب الذي شجعه على السفر، وبعدها سلك طريق الحصن حيث برزة الوالي ودار القضاء وكتبة السلطان.. دخل عليهم مُسلمًا وسأل الحارس عن مكان تقديم طلبات السفر، فقال له بكل حزم: من يكفلك عند الوالي للسفر؟ فرد عليه وهل الأمر يحتاج إلى كفيل؟ ضحك الحارس وقال له: نعم وليس كل رجل يستطيع أن يكفلك، فالوالي يوافق بسرعة كلما قدم معك رجل معروف أو شيخ ذو حظوة عند الحكومة. عندها فكّر في عمه الشيخ سعيد بن فدنوت ولمحاسن الصدف كان الرجل في برزة الوالي فوقع له طلب السفر وسلمه لكاتب الوالي.
وللقصة بقيّة،،