حاتم الطائي
الحديث عن التنمية لا يتوقف، ويتجدد دومًا بتجدد المعطيات وتغيُّر الظروف، وظهور تحديات قد تبطئ من سرعة الإنجاز، أو إشكاليات تتعلق باستدامة هذه التنمية والمحافظة عليها للأجيال القادمة، لكن ما يبعث على التفاؤل والارتياح أنّ هذه المسيرة من المشروعات التنموية في بلادنا تمضي في مسارها الذي خطته الرؤية الثاقبة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه-.
وللتنمية أهداف عدة، تأتي في الصدارة منها تحقيق النمو الاقتصادي وضمان رفاهية وسعادة المواطن، وكل ذلك يتحقق عبر تطوير القطاعات الاقتصادية وزيادة الإنتاج والارتقاء بمستوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية، وتحفيز الأنشطة الرياضية، والنهوض بالفنون والثقافة.. كل ذلك يندرج تحت مظلة التنمية الواسعة، ويبقى التحدي الأكبر في كيفية تحقيق الاستدامة.
الحكومة الرشيدة وعلى مدى ثمانية وأربعين عامًا من النهضة المباركة، سعت بكل طاقتها وإمكانياتها أن تظل عجلة التنمية في حركة مستمرة، حتى في أشد الظروف الاقتصادية، وقبل نحو أربع سنوات، أعلنت السلطنة دعمها لأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أطلقتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووضعت العام 2030 حدا زمنيا لإنجاز هذه الأهداف، بجانب 169 غاية، لتحقيق استدامة التنمية.
هنا أود أن أعرج على هذه النقطة من خلال حدثين رئيسيين تشرفتُ بالمشاركة فيهما خلال الأسبوع الماضي؛ الاول استضافة السلطنة لأعمال المؤتمر السنوي الثامن عشر للمنظمة العربية للتنمية الإدارية والذي حمل عنوان "دور الحكومات العربية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030"، ونظمته باقتدار وكفاءة وزارة الخدمة المدنية بالتَّعاون مع المُنظمة العربية للتنمية الإدارية والتي تتبع جامعة الدول العربية، وقد شاركتُ بإدارة حلقة نقاشية بعنوان "الإدارة العامة الجديدة.. خارطة للتطوير الإدارية وتحسين الممارسات الحكومية". أمّا المشاركة الثانية فكانت عبر محاضرة ألقيتها ضمن فعاليات برنامج "المرتكزات والمبادئ الموجهة لسياسة الدولة"، والتي تناولت "دور الإعلام في دعم مسيرة التنمية".
الحدث الأول شهد التأكيد على أهمية دور الحكومات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ووضع الخطط اللازمة لضمان تنمية وتحسين تنافسية الاقتصاديات العربية وكيفية تعاطيها مع مختلف التحديات، فضلا عن مواكبتها لمتطلبات العصر، إلى جانب اقتراح آليات التخطيط وكيفية تحسين الأداء الحكومي على أسس علمية حديثة تتفاعل مع التكنولوجيا المعاصرة وتستفيد منها. وبالنسبة للسلطنة، فلقد نجحت حكومتنا- ولله الحمد- في تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، انطلاقا من الحرص على الاستفادة مما تجنيه البلاد من ثمار التنمية، إضافة إلى ترجمة هذه التنمية إلى مشروعات تخدم الإنسان العماني وتوفر له سبل الرخاء والرفاه. وعلى مدى ما يقرب من 30 ورقة عمل وكلمة، ناقش المجتمعون في هذا المؤتمر العديد من قضايا التنمية، منها دور التحول الرقمي في التنمية المستدامة، وآليات وضع وتنفيذ استراتيجيات التنمية، وطبيعة أهداف التنمية المستدامة في المنطقة العربية، ودور الشركات الرائدة والكبرى في تعزيز أهداف التنمية المستدامة، وطبيعة التحديات التي تواجه الحكومات عند السعي لتطبيق أهداف التنمية، وغيرها الكثير من القضايا والأفكار التي لا يتسع المجال لذكرها. لكنني أود أن أسلط الضوء في هذا السياق على تحديات التنمية، والتي طرحها الخبراء والمختصون في ذلك المؤتمر البالغ الأهمية، وأبدأ بالتحديات المجتمعية؛ حيث لا تنمية حقيقية بدون مساعدة ودعم واشتراك من المجتمع؛ أفرادا ومؤسسات، وأخص بالذكر مؤسسات القطاع الخاص، التي بات يتوجب عليها أن تبادر بأفكار وخطط جريئة تعود بالنفع على المواطن، منها زيادة الإنتاجية وتوفير المزيد من فرص العمل للشباب، والتوسع في المشروعات والخدمات. ومن شأن تفادي هذه التحديات أن تحقق الحكومات المعادلة الصعبة بين النمو الاقتصادي والتوزيع العادل للثروة بين جميع الفئات، وتأسيس مورد بشري مؤهل، وبناء نظام مؤسسي يضمن المشاركة والمساءلة والمحاسبة، ومنظومة ضمان اجتماعي ناجعة تحقق اللحمة الوطنية، إلى جانب التأسيس لمشهد ثقافي متقدم قائم على قيم التعايش والتسامح مع الآخر. ويمكن القول إنّ السلطنة نجحت بكفاءة وتميز في أن يحقق المؤتمر الأهداف التي عقد من أجلها، وأبرزها مساعدة الحكومات العربية على وضع خارطة طريق لنموذج تنمية جديد وفاعل يضمن بناء مستقبل عربي أفضل، تكون الأولوية فيه للتنمية والعمل على استدامتها بشتى الطرق وأنجع الوسائل.
ولتحقيق أهداف التنمية، لابد أن تتواكب هذه التنمية مع إعلام وطني مسؤول وقادر على نقل الحقائق دون مبالغة أو تهوين، متسلح بأدوات العصر ومُدرك لحجم التحديات، ومؤهل لطرح الحلول والمقترحات الكفيلة بتعزيز استدامة التنمية. وكان ذلك موضوع المحاضرة التي ألقيتها في المعهد الدبلوماسي ضمن فعاليات برنامج المرتكزات والمبادئ الموجهة لسياسة الدولة، والتي أكدنا فيها على ما تسهم به وسائل الإعلام من دور محوري في عملية التنمية، حيث إنّ من عوامل نجاح التنمية في أي دولة، أن يتوازى الأداء الإعلامي مع جهود التنمية والتطوير، من خلال تسليط الضوء على ما يتم تحقيقه من منجزات على أرض الواقع، ومناقشة السلبيات- إذا وجدت- بصورة تدعم الحل وتبتعد عن الإثارة أو ليّ عنق الحقائق. وفي ظل المتغيرات المتسارعة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كإحدى الأدوات الإعلامية الجديدة، يتعين على وسائل الإعلام أن تبحث عن آليات لتطوير المهام والمسؤوليات المنوطة بها، عبر مبادرات تواكب هذه المتغيرات المتسارعة، ورؤى طموحة تعزز من دور الإعلام في رفد مسيرة التنمية بما يساعد على دفعها قدما إلى الأمام. ويتمثل التناول الإعلامي الإيجابي مع مشاريع التنمية في طرح الأفكار والرؤى البناءة الداعمة لتحقيق النمو، وأيضا وبنفس الدرجة إبداء النقد البناء الهادف إلى تصويب الأخطاء وتعظيم الفوائد، وهنا تتحقق حالة التكامل بين الإعلام والتنمية، فيتعزز الازدهار الاقتصادي.
إن العلاقة بين وسائل الإعلام وعملية التنمية في بلادنا، انطلقت بقوة مع بدايات عصر النهضة المباركة، وقد أولى الفكر السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أيده الله- رعاية كبيرة بقطاع الإعلام، إيمانا من جلالته بمدى الدور المهم الذي يؤديه الإعلام في خدمة المجتمع ودعم مسيرة التنمية في البلاد، لذا ليس مستغربا أن تُدشن السلطنة أول إذاعة لها على الأثير بعد نحو أسبوعين من تولي جلالة السلطان المعظم لمقاليد الحكم في البلاد، حيث انطلقت إذاعة السلطنة في التاسع من أغسطس 1970.
وتتمحور علاقة الإعلام مع التنمية في جملة من النقاط، منها دور الإعلام في إبراز منجزات التنمية، وأيضا طرح الحلول للتحديات، عبر التواصل مع صناع القرار والخبراء، وهو الأمر الذي يتطلب التعاون والشراكة من مختلف الأطراف مع وسائل الإعلام، لاسيّما وأنّ مسؤولية تبصير الرأي العام بطبيعة التحديات تقع في جانب كبير منها على عاتق الإعلام، عبر استراتيجيات إعلامية محكمة، ترفع شعار الأمانة في العرض والحرص على المصلحة الوطنية. وتحقيق تلك الشراكة ينطلق من قاعدة أنّ الجميع شركاء في بناء الوطن، وأنّ الحكومات لم تعد وحدها المسؤولة عن المسار التنموي في البلاد، بل إنّ لمختلف القطاعات أدوار متعددة يجب أن تُصاغ بمسؤولية وعناية للإسهام الناجع في التنمية، وعلاوة على ذلك ضمان الاستدامة.
وختاما.. إنّ تحقيق التنمية المستدامة مشروط بقيم ثلاثة: التعاون والشراكة والالتزام، تعاون بين مختلف أطياف المجتمع من خلال دعم الجهود الحكومية الساعية للتنمية والمحافظة عليها، وشراكة حقيقية بين القطاعين الحكومي والخاص، والتزام من الجميع على هذا التراب الوطني أن يعلوا من شأن المصلحة الوطنية وأن يكون النمو الاقتصادي وتحقيق الاستدامة هدفهم الأساسي والأصيل.