"حارسة الظّلال" لواسيني الأعرج نموذجاً:

أثر البنيات الحكائية الصّغرى في توجيه الخطاب الروائيّ (5 – 5)

...
...
...
...



أ.د/ يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
خامساً ـ موجة الحكايات الصغيرة:
إن حكايات الفصول الرئيسية والأمكنة والشخصيات والسياقات الدلالية، يدعمها الروائي بمجموعة من الحكايات الصغيرة التي تؤكد مقولة الرواية ذاتها، وتندغم فيها، لتغدو مجموعة حكايات ضرورية وكافية، تبدأ ـ كل منها على حدة ـ بحالة تفتح إمكانية ما، ثم تحقق تلك الإمكانية، ونهاية الفعل(9)، دون أن تخسر ارتباطها العضوي بالحكاية الرئيسة.
إنّ جميع الحكايات الصغيرة التي تدونها الرواية تنضوي تحت مجموعة من الخطوط الرئيسة التي تدين إهمال السلطة في الحفاظ على تراثها، مثلما تدين العنف الدموي الذي يطال كلّ شرائح المجتمع. فثمة حكايات عديدة ترصد حياة المزبلة/ المغارة التي منها حكاية سرقة تمثال سرفانتيس بعد زيارة وزير الثقافة الإسباني للمزبلة.
وثمّة حكايات أخرى تتعلق بالمزبلة حيث يجد البحاثون الروائع الخالدة ويبيعونها لتجّار الآثار ذوي الخبرة في هذا المجال، ليجمعوا النفائس في هذا المكان العجيب:
"في نهاية جولتنا كشف لنا شفيق عن مكان كان يضع فيه قذائف حجرية منحوتة مثل الكرات كانت توضع في المنجنيق، وقطع ذهبية وزرابي تركية ونسخة من ألف ليلة وليلة، بليال غير معروفة، اشتراها باحث مستشرق فضّل عدم ذكر اسمه وقطعاً زجاجية مسروقة، بكل تأكيد، من كنائس قديمة أو مساجد عتيقة". ص70.
لقد أدهشت هذه النفائس التراثية دالميريا؛ إذ عبّر عن امتعاضه من ضياع كل هذه الذخائر داخل مزبلة، وإذ قدّم شفيق له ولحسيسن مخطوطة قديمة، صفراء ومغبرّة، هي كتاب منامات الوهراني الذي لم يأت على ذكره إلا بروكلمان، يقول شفيق:
"ـ من المفترض أن تهم وزارة الثقافة، كنز ثمين علينا أن نحتفظ به في وطننا بدل تركه بين أيدي المستشرقين. تحركوا قبل فوات الأوان. اقتنوه قبل أن يشتريه الآخرون" ص ص72-73.
وبعد لقاء شفيق بالرجلين، عند عتبة الباب، يقول دالميريا معبّراً عن غنى ذلك المكان بالآثار:
"كأننا داخل متحف وطني" ص73.
غير أن الأهم ها هنا ليس تشويه الآثار أو سرقتها أو إهمالها، بل تشويه الوعي الذي يبدو إنه أصاب طفل المزبلة الذي يدور بينه وبين دالميريا الحوار التالي:
"ـ اسم سيرفانتيس؟؟ ألا يعني لك شيئاً؟
ـ واش تحب يعني لي؟ لا شيء سوى أنه اسم لحيّنا وللغابة... يقولون كذلك أنه اسم لكافر جاء من بعيد ليسرق كنوز هذه البلاد، وليمسّح الناس" ص90.
وعلى ما يبدو في السياق الروائي، فإنّ الطفل ليس هو الجاهل الوحيد بسرفانتيس، فوزير الثقافة لم يكن يعرفه كما مرّ معنا في سياق سابق، وما دام أهل مكة لا يعرفون شعابها، فمن الطبيعي أيضاً أن نلمس جهلاً مماثلاً في وزارة الدلخلية، ممثلةً بتوفيق:
"ـ وشكون هذا السيد؟
ـ ميغيل سرفانتيس.
ـ حتى هذا كان معكم في المفرغة؟
ـ أنت تمزح يا سيدي. الرجل مات منذ أربعة قرون على الأقل". ص126.
ها هنا تبدو الثقافة نهباً للجهل، وليت الأمر يقف عند حدّ الجهل الذي يؤدي إلى التدمير؛ فالوقائع تشير إلى تدمير منظّم لكل مظاهر الحضارة والعمران والتراث والثقافة، على يد أعداء حسيسن وحنّا الذين يلبسون وجوهاً مختلفة، وحكايات حسيسن الصغيرة مع مدير الجامعة ووزير الثقافة تؤكد ذلك، فمدير الجامعة يرى نفسه أجدر الناس للمشاركة في ندوة غرناطة، ولا تستقيم مشاركته ولا تؤتي أكلها، إلا إذا كانت سكرتيرته معه:
"عندما شرحت لمدير الجامعة جدوى ومقاصد اللقاء ودقة اختيار الأستاذين لم يتوانَ مطلقاً من أن يقترح علي اسمه واسم سكرتيرته نادية، سكرتيرته الخاصة لتذهب إلى غرناطة التي، كما قال، سبق وأن اشتغلت على ملفات قريبة من هذا الموضوع" ص135
أما الحاكمون بأمر فهمهم للنص الديني فقد اقتحموا متحف الفنون؛ وإذ تجابههم مديرته نوارة بالقانون يقولون لها: "ما كانش قانون فوق قانون الله" ص82. معتقدين أنهم يستمدون سلطتهم من سلطة الله، في حين أن ثقافتهم هي ثقافة العدم والهلاك وتحطيم الآخر.
إذاً حكايات الفساد والإفساد تبدو لا نهاية لها، وهي تترافق عادة بحكايات قمع يحكمها كمّ الأفواه والاعتقال، وقد تصل إلى التصفية الجسدية، ولنا في اعتقال دالميريا مثال ناصع، إذ يتم اعتقاله من جهة مجهولة، تتكشف فيما بعد في شخص السلطة، ويتدرج الاتهام من الوجود في مكان مشبوه إلى الجوسسة إلى محاولة كشف الشبكة المفترضة التي يرتبط بها، ومن يقف وراءها، إلى إدخال حسيسن دائرة الاتهام بتهمة التعامل مع دالميريا؛ إذ يقول له مقدّم: "هل فكرت بمستقبلك؟ هذا الطريق الذي تسير فيه مسدود. وإذا أصررت فهذا المستقبل سيصبح على منقار عفريت" ص118.
وإنّ  صورة الأمن المركزي، بوصفه ركناً من أركان النظام،  ملازمة للرهبة التي تجعل سائق التكسي خائفاً من الاقتراب من الكوميسارية، لأن الاقتراب منها هو الاقتراب من السيادة والسلطة القوية، وهذا ما قد يفهمه الإرهابيون فهماً آخر:
"ـ حسبتني مهبول؟ أنا إنسان صاحب عائلة، ولست مستعداً للانتحار المبكّر. لو كان يشوفوني توقفت عند الكوميسارية سيذبحونني. سيعتبرونيي خائناً وأحد أتباع الدولة الكفار" ص101.
هذا المجتمع المسيطر المدّعي، له ثقافته الواسعة في النصب والاحتيال: حكاية إخراج وسائل النقل التي يُزعم أنها غير صالحة من الخدمة، وإصلاحها، ثم بيعها للدولة مرة أخرى، وحكاية تدمير الميناء القديم التي اغتيل بعدها رئيس جمعية عشاق الجزائر، ص80، وحكاية التلاعب بالأدوية وغيرها التي ذهب ضحية فضحها بختي الصحفي، الذي فقد حياته لأنه عمل على "المس بهيبة الدولة" ص76. وهذا ما يجعل السلطة تغدو، وإن بشكل غير مباشر، شريكاً للمتطرفين. يروي حسيسن لدالميريا الحكاية الصغيرة التالية التي لا تخلو من دلالة:
"قبل وصولك بأيام، طباخ ذهب ضحية حلمه المجنون، ترشح للرئاسيات فاغتيل بكل بلادة وهو ينشط حملته الانتخابية. نصحته مراراً بترك هذا الوباء ولكنه أصرّ. تعرف ماذا كان ردّه؟ أترشح لإرضاء نفسي، ولكن كذلك من أجل كل الذين في وضعيتي. الذين سبقوني لم يكونوا أفضل مني". ص57.
وبعد أن يحكي له هذه الحكاية يقول: "بني كلبون [كذا] لا يلعبون أبداً بالنار عندما يتعلق الأمر بالسلطان" ص58.
إذاً ثمة إلى جانب الفساد والتخريب حكايات قمع أكثر دموية، يقترفها بنو كلبون حيناً، وخلفاء الله الجدد (!!) حيناً آخر، ويبقى رأس الحكايات الصغيرة ها هنا حكاية حسيسن الذي بدأت على شكل تهديد، رسالة ثم طرد بريدي:
"فتحته دون تفكيرـ وإذا به قنينة عطر يوضع على جسد الأموات عادة، وكفن أبيض عليه بقع دم، وورقة مكتوب عليها جملة واحدة: انتظر دورك أيها الطاغوت" ص36.
ها هنا يواجه حسيسن عدواً آخر، يأخذ القانون بيده، ويطبقه كما يفهمه هو، بسلطة فهمه الخاص للنص الديني، ويُعمل السيف في رقاب العباد:
"اغتيلت ذبحاً السيدة عائشة جليد أمام بناتها الثلاثة [كذا]. في ليلة الأربعاء إلى الخميس اقتحمت مجموعة مسلحة بيت عائشة البالغة من العمر 37 سنة، أم لثلاث بنات وتعيش مفصولة عن زوجها (...) في حدود الساعة الحادية عشرة ليلاً سمعت دقاً على الباب مصحوباً بنداء: افتحي، الشرطة... الشرطة؟ عندما فتحت الباب هجم عليها شخصان ملثمان (...) كانوا اثني عشر فرداً، قرروا قطع رأسها أمام بناتها"، ثم يروي السارد تفاصيل مرعبة لعملية اغتيال هذه المرأة التي تتلخص جريمتها الكبرى في أنها لم تكن ترى معنى للحياة إلا في عملها.
وثمة حكاية جريمة أخرى يرتكبها حراس الظلام تتحدث عن مقتل حورية: "فتحت الأم الباب فدخل شخصان بعنف وأخذا حورية، شابة في مقتبل العمر. كان النوم ما يزال يملأ عينيها. سحباها بعنف شديد من ذراعها باتجاه سيارة غولف سوداء اللون. في صباح اليوم الموالي وجدت مذبوحة داخل الحي، مكتفة اليدين وراء الظهر وغارقة في بركة من الدم" ص56.
إن هذه الرواية من خلال حكاياتها وشخصياتها تخوض معركة كبرى ضد ظلال القمع والتزوير والتدمير، من أجل تكريس ظلال البقاء والحضارة، وجميع الشخصيات التي تحاول حراسة ظلالها تدرك صعوبة المعركة، ولكنها مصممة على خوضها، وإن كانت تبدو أكثر تعقيداً من معارك دون كيشوت التي خاضها ضد طواحين الهواء.
هوامش البحث:
1.    واسيني الأعرج: حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر)، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2006.
2.    الاستذكار الخارجي هو "الاستذكار الذي يبقى مداه كله خارجياً بالنسبة إلى زمن السرد الأول" وتمكن مراجعة:
ـ Gerard Genette: Narrative Discourse (An Essay in Method, Translated by jane E. Lewin, Forward by Jonathan culler, Journal University Press, Ithaca, New York. P. 49.
3.    حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي (الفضاء ـ الزمن ـ الشخصية)، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، ط1، 1990، ص26.
4.    أدوين موير: بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، مراجعة، عبد القادر القطّ، المؤسسة المصرية للتأليف والأنياء والنشر، والدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ط، 1965، ص84.
5.    د. نبيلة إبراهيم سالم: نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة، النادي الأدبي، الرياض، 1980، كتاب الشهر (20)، ص58.
6.    جان ريكاردو: قضايا الرواية الحديثة، ترجمة وتعليق صياح الجهيم، وزارة الثقافة، دمشق، 1977، ص173.
7.    خويا حمّو هو حامل الشمس، الضائع وسط الأشواق والأنوار، مثلما تقول حنّا.
8.     تمكن العودة على سبيل المثال إلى الصفحات 61 و66 و69 و91؛ حيث يروى التاريخ في ثوب ذهني جاف يكسر صفاء لغة الرواية، وقد كان بإمكان الروائي توظيف الهامش، حين يحتاج لمثل تلك الحكايات، مثلما فعل الروائي أميل حبيبي.
9.     قصر بريمون مفهوم الحبكة على (التتابع الأولي) بصفته وحدة أساسية، فهو يرى أننا "حين نروي أي شيء على الإطلاق هناك شرط ضروري وكافٍ أيضاً هو أن يمضي الفعل المروي بثلاث مراحل: حالة تفتّح إمكانية ما، ثم تحقق تلك الإمكانية، ونهاية الفعل، ويمكن النظر في:
_ بول ريكور: الزمن والسرد (مج2: التصوير في السرد القصصي)، (ترجمة: فلاح رحيم)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2006، 2/77.

 

تعليق عبر الفيس بوك