"حارسة الظّلال" لواسيني الأعرج نموذجاً:

أثر البنيات الحكائية الصّغرى في توجيه الخطاب الروائيّ (4 – 5)

...
...
...
...


أ.د/ يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


رابعاً ـ موجة السياقات الدلالية:
على الرغم من أن لغة واسيني الأعرج ليست لغة معيارية، وعلى الرغم من معاناتها في بعض الأحيان من الهنات النحوية والصرفية والأسلوبية؛ وعلى الرغم من إرباك السرد بالأرقام والتفصيلات والحكايات التاريخية والصياغات الذهنية(8)؛ فإن هذه اللغة تبقى لغة إيحائية في كثير من سياقاتها التي تسهم، من حيث تركيب اللغة وبنيتها ودلالتها، في رفد خط الحكاية الأساسي بروافد غنية التأثير؛ إذ ثمة سياقات روائية ذات علاقة بالمكان أو بالشخصيات، تبدو دلالتها اللفظية أقوى من ارتباطاتها الحكائية، ففي "هذا البلد المرء ليس مجبراً على احتراف السياسة حتى يُقتل.. يكفي أن تفكّر بشكل مخالف.. أن تحبّ الحياة.. أن تعشق كالطائر الحر.." ص33. وفي هذا البلد أيضاً لا شيء في مكانه الصحيح. يقول كريم لودوك سائقُ سيارة الأجرة دالميريا قائلاً:
"في هذا البلد يا صديقي كل شيء يسير بشكل معكوس. لا أحد في مكانه الطبيعي وإلا لما وصلنا إلى هذا الوباء الذي يزداد كل يوم انتشاراً في البلد بكامله. أنا مثلاً أملك شهادة الليسانس في اللغة العربية وأشتغل سائق سيارة بدل أن أكون في مكاني الطبيعي.. ابن عمّي أمّي بالكامل، مدير شركة وطنية كبيرة (...) الظاهر أنه حتى رئاسة الجمهورية في هذا البلد لم تعد تتطلب كفاءات عالية أو حتى متوسطة. لا شيء سوى السلطان حتى ولو كان على كم لا يضاهى من الخيبات والجهل". ص57.
في هذا الخضمّ المتراكم من الجهل يصبح مفهوماً ألا يعرف وزير الثقافة السي وهيب أديباً مثل سرفانتيس، إذ إنه يُستفزّ حين يعرف أن ضيفه الإسباني يريد مغارة سرفانتيس التي جعلتها الأيام السوداء مزبلة، وهذا حوار بين الوزير وحسيسن/ المترجم:
" ـ واش تقعد بي؟ شكون هذا سرفانتيس؟
ـ ولكن يا سيدي؟؟.
ـ (...) غير معقول؟ مسؤول سامٍ يريد تمريغ أنفه في زويبة (مزبلة) بلكور.
في الحقيقة كنت خجلاً من نفسي إذ انتابني خوف من أن يكون الضيف قد فهم كلّ المحاورة (...) المؤكّد أنه كان يظنُّ أن المغارة مكان سياحي يحلم عشاق سرفانتيس برؤيته لو مرة واحدة في العمر" ص39.
وإذ يطلب الوزير الإسباني رؤية المكان الذي يضم بعض تراث سرفانتيس ، ويدرك الوزير أهمية سرفانتيس، يأمر بنتظيف المزبلة التراثية، فيتم ذلك في يوم واحد، ستراً للفضيحة، وخدمة للرياء، وها هو ذا الوزير يخاطب حسيسن:
"آه منكم أنتم المثقفين! تعطون أهمية حتى لأتفه الأشياء. طيب سأعطي الأمر لانطلاق حملة تنظيفية سريعة بمساعدة الولاية وأنت تهتم بالبقية. حسيسن أتّكلُ على خبرتك. أما أنا فسأتكفّل بهذا الضيف الغريب والمُعقّد" ص40.
ومن الطبيعي ألا يكون رجال الأمن الذين يصورهم المتن الروائي أكثر معرفة بأهمية الآثار من وزير الثقافة، لذلك يجد دالميريا نفسه في أثناء الاعتقال في مواجهة عقليات لا تريد أن تقتنع بأهمية الآثار، ولا تقبل التوجيه من أحد في شأن ذلك:
-    "في بعض البلدان يعاقب مهربو المعالم الأثرية بصرامة قد تصل إلى الإعدام.
-    لكن يا سيدي لستُ أنا من وضع هذه الآثار في المزبلة.
-    وهل نفهم من هذا أنك تعلمنا ما يجب أن نعرفه؟
-    لستُ كفؤاً لذلك يا سيدي". 169.
وثمة سياقات دلالية أخرى تشير إلى بني كلبون وإلى عائلة الخضر، وتقدّم شخصياتهم بلا ملامح خاصة، فهم مجموع لا أفراد، وهم يمتلكون سلطاناً إلهياً، يسنّون القوانين، ولا يخضعون لها، ويمكن أن نشير إلى السياقات التالية:
•    "عائلة الخضر مثل الله، لا تشبه إلا نفسها وسلطانها، لا تؤمن إلا بما يصدر عنها، ولا يستقيم نظرها إلا برؤية اللون الأخضر الكاكي.. اللون الوحيد الذي يستفزني منذ طفولتي الأولى" ص17.
•    "يبدو أن لا شيء سيتغيّر في هذه البلاد.. بنو كلبون يملكون طاقة استثنائية للتوالد وتغيير الجلد مثل الخلايا السرطانية. يخرجون منكسرين من النافذة ويعودون من البوابات الكبيرة حاملين لواء التحرر والثورة" ص208.
•    وإذ يسأل دالميريا الرجل الضخم في السجن عن المعلّم الذي يخيف الجميع، يقول: "لا أعرفه يا سيدي، ولكن يقال أنه يشبه الظل تارة، وتارة أخرى مثل الزئبق. في كل مكان وفي اللامكان. يسمع كل ما يقال في السرّ والعلن" 163
كما إن هناك سياقات لغوية دالة، تقدّم من خلال شخصيات غير فاعلة في الحدث، ولكنها ظاهرة الدلالة في تعميق الرؤية، وهذا ينطبق على شخصية زريد وظلها مايا؛ إذ تعرض هذه السياقات تلكما الشخصيتين، وهما تقودان معركة الظلال نحو نهاية مفتوحة: فـ دالميريا؛ إذ يتحدث عن سرفانتيس في الكورديللو، يشير إلى أن سرفانتيس قد رأى "زريد" من سطيحة السجن، قبل أن تختفي، لأن أباها حاج مراد عاشق لالة مريم، وقائد حصن الباطا قد سدّ عليها كل المنافذ.
إن غياب زريد عن نظر سرفانتيس وعن حياته يمثل في واقع الأمر غياباً للظلال التي يبحث عنها دالميريا، لذلك راح يبحث عن ظلال أخرى تعيد لها الحياة من خلال شخصية مايا المترجمة التي كانت تدرك أنها جزء من لعبة الحضور والغياب، وأنها ليست سوى ظلّ يسعى دالميريا إلى حراسته:
-    "أنت مدهشة. تذكرينني بشخصية نسائية عند سرفانتيس..
-    من؟ زُريد؟ لالة مريم؟ كما ترى لستُ جاهلة بجدك إلى هذا الحدّ" ص184.
وإن المتتبع للسياقات اللغوية التي تبحث عن زريد في ظلال مايا يجدها كثيرة بما يكفي، ليجعل من تلك السياقات رافداً أساسياً للحكاية، وإنّ الخلط المتعمّد بين الشخصيتين، يتجلّى من خلال هذا الخطاب الصوفي الذي يعبّر عنه دالميريا في إحدى تجلياته؛ إذ يقول:
"مايا.. أيتها الضوء المتسرّب بحلاوة عسلية، غيابك ترك فراغاً كبيراً، تمنّيت أن أقول لك.. مايا.. زريد.. لالة.. أينك أيتها السيدة العالية. أريد أن افضي لك بما في القلب. أشعر بأنك الوحيدة القادرة على فهم هذا الجرح الفج الذي فُرض علي" ص182.

 

تعليق عبر الفيس بوك