التربية بالمواقف

 سعيد المحرزي | سلطنة عمان
كاتب تربوي


يمر الإنسان بالكثير من المشاهدات والمواقف في حياته، والتي تؤثر فيه إيجابا أو سلبا، وتعتمد درجة التأثر على كيفية التعامل مع هذه المواقف والاستفادة منها، والسؤال هنا ما هو التعامل الأمثل مع المواقف التي قد يتعرض لها الانسان في حياته، حتى يستفيد منها في تطوير حياته وفي تطوير غيره وخاصة أسرته.
سأجيب عن هذا التساؤل من خلال التركيز على كيفية استثمار المواقف المتنوعة التي يتعرض لها الانسان في تنمية قدرات أبنائه وأسرته عموما، لما لذلك من أثر إيجابي كبير في تنشئتهم واعدادهم للحياة، لأنها – أي المواقف الواقعية -تعطي نموذجا عمليا لما قد يتعرض له الانسان خلال حياته من تحديات.
يتحدث الدكتور جاسم المطوع وهو مختص واستشاري في قضايا الأسرة عن التربية بالمواقف أو الاحداث كما يطلق عليها، أن هذا النوع من التربية يمكن أن يمارسه الأب والأم في أي وقت وبدون كلفة وذلك باستثمار أي موقف أو حدث يحدث لهم في أي مكان، وذلك عن طريق فتح باب الحوار مع الأبناء حول ذلك الموقف، وذلك بتحليل هذا الموقف، حيث يشمل هذا التحليل طرح أسئلة تتناسب مع عمر الأبناء بحيث يتم التوصل إلى إيجابيات وسلبيات هذه المواقف الواقعية وكيفية الاستفادة منها في الحياة العملية.
ولنأخذ مثال على ذلك: قد يذهب الأب مع ابنه الى السوق فيشاهد الابن أحد الشباب وهو يرمي بعض النفايات في المكان المخصص لها، وهنا يوظف الأب الموقف لتنمية بعض الجوانب الإيجابية لدى ابنه، فيطرح عليه بعض التساؤلات مثل: ما رأيك في تصرف الشاب؟ لماذا تصرف بهذه الطريقة؟ ما الفائدة للمجتمع وللشاب حينما قام برمي النفايات في المكان المخصص لها؟ ماذا لو تم رمي النفايات في الشارع؟ ما الأثر السلبي لذلك؟ كيف يمكنك توعية الشباب لأهمية المحافظة على النظافة؟ وغير ذلك من الأسئلة المفتوحة والتي تجعل الابن يحلل ويفكر وينقد ويقترح مما سيعمق فهمه ووعيه لقيمة النظافة المعنوية والمادية.
ولنذكر مثالا آخر: قد تذهب الأم مع ابنتها الى أحد المولات التجارية وترى صور وملصقات دعائية عليها صور لنساء في ملابس غير محتشمة، فتسأل الأم ابنتها: ما الهدف في هذا الملصق الدعائي؟ لماذا وضعت صورة المرأة فيه؟ وهل لباسها محتشم في هذا الملصق؟ وهل من الضروري وضع صورة للنساء بهذه الكيفية فيه؟ ما الآثار السلبية لمثل هذه الملصقات بهذا الشكل؟ هل يمكن تصميم ملصقات دعائية تؤدي الهدف المرجو منها بدون وضع صور مخلة بالآداب الاجتماعية؟، إن مثل هذه الأسئلة توفر للأبناء فهما ووعيا وإدراكا لخطورة بعض الملصقات أو الإعلانات الدعائية والتي تقدم بصورة سيئة وتؤثر سلبا في قيم المجتمع وأخلاقه، مما سيدفعهم الى المساهمة بإيجابية في توعية أنفسهم والمجتمع حول أي ممارسة غير إيجابية قد يتعرضون لها في حياتهم.
إن اتباع هذا الأسلوب في التربية يعزز لدى الأبناء مهارات التفكير الناقد، والتي تعتبر من المهارات المهمة جدا في القرن الحادي والعشرين، ويمكن تعريف التفكير الناقد على أنه تفكير يرتكز على التأمل والعقلانية ويستخدم لإصدار حكم أو رأي لموقف أو حدث أو قضية محددة، وهنا لا يصدر الفرد رأيه إلا بعد توفر عدد كاف من الأدلة والشواهد على ذلك الحدث أو الموقف، لذا نرى أن للتفكير الناقد بعدين إثنين: البعد الشخصي والبعد الاجتماعي، يتضمن البعد الشخصي في التفكير الناقد على نقد الفرد لطريقة تفكيره مما يؤدي الى تطوير الفرد لتفكيره بحيث يكون أكثر دقة وأكثر وضوحا وتناسقا واتساقا، فمثلا حينما يفكر الطفل في طريقة اعداده لجدول مذاكرته، بحيث يسأل نفسه بعض الأسئلة مثل: هل تم مراعاة صعوبة المواد الدراسية؟ أي المواد يحتاج الى حل مسائل بدرجة أعلى؟ أي المواد تعتمد أكثر على الحفظ؟ هل تم اختيار الوقت المناسب لدي للمذاكرة؟ وهكذا يسأل الطفل نفسه مثل هذه الأسئلة حتى يقيم طريقة تفكيره واختياره لجدول مذاكرته.
ويشمل البعد الاجتماعي في التفكير الناقد على نقد القضايا الاجتماعية نقدا يعتمد على المعلومات الدقيقة الواضحة بدون تسرع أو انفعال، فمثلا حينما يطلب من الطفل اعطاء رأيه في قضية من قضايا المجتمع مثل ظاهرة استخدام الأطفال للهاتف النقال في المدرسة، يحاول الطفل هنا البحث عن إجابة لبعض الأسئلة مثل: ما هي إيجابيات وسلبيات استخدام النقال للأطفال بشكل عام؟ هل هناك من أضرار أو فوائد خاصة بعملية التعلم لاستخدام الهاتف النقال في المدرسة؟ هل يمكن استخدام الهاتف وفق ضوابط من المدرسة والأهل؟ هل هناك تحديات مرتبطة بالصحة النفسية والجسمية لاستخدام الهاتف في هذا السن المبكر؟ إن محاولة الطفل للإجابة عن هذه الأسئلة سيوفر له قدرا من المعلومات لإعطاء حكم مناسب جدا على هذه القضية.
يتضمن البعد الاجتماعي في التفكير الناقد أيضا التأكد من صحة الاخبار والمعلومات، وهذا جانب مهم جدا وخاصة هذه الأيام حيث تكثر الشائعات والمعلومات المغلوطة، فيحتاج أبنائنا الى توعية خاصة تمكنهم من عدم تصديق أي خبر إلا بعد أن يفكر جيدا في مدى دقة وصحة الخبر، وأيضا في مدى مناسبة إعادة نشر هذا الخبر، تتمثل مثل هذه التوعية في طرح الطفل بعض التساؤلات حول أي خبر مثل: ما مصدر هذا الخبر؟ هل من الممكن حدوث مثل هذا الخبر؟ هل هناك ترابط بين الخبر والواقع؟ ما هي الآثار المتوقعة لانتشار مثل هذا الخبر؟، وهكذا نجد أن طرح مثل هذه التساؤلات يحد من نشر الشائعات والأخبار الغير صحيحة، ويساهم في حماية الطفل والمجتمع من انتشار هذه الشائعات أو المعلومات الغير صحيحة.
هناك مهارات كثيرة مرتبطة بالتفكير الناقد يتعلمها الأبناء من خلال هذا النوع من التربية، مثل مهارة تحليل الأدلة ومهارة تقبل وجهات النظر والآراء المختلفة.
إن توظيف الوالدين والمربين عموما للمواقف الواقعية والأحداث الحية في التربية تساعد على اعداد أجيال مفكرة ناقدة، تعتمد على المعلومات الدقيقة في حكمها على الأمور والقضايا، لا تتسرع في تصديق المعلومات إلا بعد إخضاعها للعقل والمنطق، مما يسهم في بناء مجتمع قوي متماسك ومنتج.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك