المدينة الفاضلة في (الزمن المستحيل) لـوفاء عبد الرزاق


د. وليد جاسم الزبيدي| العراق


- المـقـدمـــة: رواية الزمن المستحيل للروائية العراقية وفاءعبد الرزاق، من أصدارات مؤسسة المثقف العربي- سيدني/استراليا، نشر وتوزيع شركة العارف ، بيروت- لبنان، طبعة الأولى، سنة الطبع 2014م، قياس الورقة 5و14×5و12سم، عدد الصفحات(221) صفحة.
تأتي الرواية ضمن تسلسل (5) من اصدارات الروائية بعد رواية (أقصى الجنون الفراغ يهذي) . وقد قدّمَ للرواية د. عبد النبي ذاكر- المغرب، بتقديمٍ شافٍ وافٍ، ناتج عن رؤيته وقراءته،
للقاريء العربي الدخول في أجواء الرواية. وقد وزّعت الروائية الكتاب بين أهداء(ص:5) ، وعرفان من الروائية الى مؤسسة المثقف (ص:6)، ثم جاء التقديم (ص:9- 14)، ثم جاءت بعدها الرواية ، وقد قسّمتِ الروائيةُ روايتَها على (12) رحلة.
كما عهدنا طابع وأسلوب الروائيةِ في الكتابةِ، فالروايةُ انسانيةٌ بطرحها وموضوعها، فهي تصلُحُ في كل مكان من هذا العالم، فهي تبحثُ في حياة ومستقبل جيل كاملٍ من المعوقين، ذكوراً وإناثاً، جيلٌ أفرزتْهُ مجتمعاتٌ تعاني من اضطراباتٍ وتشوهاتٍ في العلاقات الانسانية (مجتمعياً وطبياً)، مجتمعات
التطور الصناعي والتقني الذي يذهبُ ضحاياه العديد من الأطفال نتيجة تلوّث البيئة والحروب وماتُنتجهُ تلك المجتمعات من نشاطاتٍ وفعاليات؛ فضلاً عن التفاعل والعلاقات في تلك وهذه من علاقات غير سويّةٍ نابعة من أخلاقيات وتصرفات هجينة يفعلها البعض على مختلف الديانات والثقافات، كلها تصبّ في انتاج جيلٍ مشوّهٍ نلعنهُ وننبذهُ في حين يتحمل المجتمع جزءاً من هذه العاقبة.
الروايةُ تمثلُ صرخةً في هذا العالم المترامي الأطراف شماله وجنوبه، شرقه وغربه، عالم الأغنياء، وعالم الفقراء، و(العالم الثالث)، وتقرع جرس الخطر لما تعاني منهُ هذه الشريحة في المجتمع الدولي من أهمالٍ ونظرةٍ دونيةٍ، وسوء في التعامل، بل أن الكثير من الدول (المتحضرة) أهملتْ قوانينُها واعرافُها المعاقين أو (المنغوليين)، بشتى صورهم وأشكالهم وعاهاتهم..بل وصمتَ عند هؤلاء الطب، وبعض رجال الدين من مختلف الديانات والمذاهب، فهنا دعوةٌ للمؤسسات الأممية والدولية لإعادة النظر بالقوانين والتعليمات، لنصرة هذه الشريحة، وكذلك لعالم الطب والأطباء لإنصافهم، وايجاد ثقافةٍ جديدةٍ واعيةٍ تتعامل بحرص انساني وحضاري وأخلاقي مع هذا المجتمع، الذي كان ضحيةً لمشاكل هذا الكون.
إنجازٌ أدبي راقٍ، يستحقُ الوقوفَ عنده من قبل المشتغلين في النقد الأدبي، وعلم الاجتماع، والباحثين في الحوار بين الأديان، والمهتمين بوضع القوانين ، ليغترفوا من هذه الرواية رؤىً وأفكاراً تبني بها عالماً جديداً يؤاخي بين الإنسان وأخيه مهما كان شكله أو معتقده أو لونه –خصوصاً- ممن يعانون من عاهة أو عوق.
 
المبحث الأول:
1- عنوان الرواية:
كما هو حال كل رواية ، من روايات الروائية العراقية، وفاء عبد الرزاق، فأن العنوان يولدُ داخل النّص، فقد جاء في (ص:18) :(لم يحرّكْ "أحمدُ" ساكناً، ولم يغوهِ حديث مقدم الحفل,,بل شدّتْهُ يديالضئيلة بأصابعها النحيلة ..جذبتهُ اليها ووضعت يده على كتاب روايتي "الزمن المستحيل".).
وفي (ص: 104): (هناكَ عدم رضا يسكنُ في أحشائي، كتبتُ ومزّقتُ كثيراً حتى استقرّبي المطافُ الى رواية "الزمن المستحيل" فلا تبخلْ عليّ في نهاية الأمر، وقد رافقتني من أول حرف فيها.).
 
2- أسلوب كتابة الرواية:
الروايةُ قُسّمتْ على رحلات، والرحلةُ هي السفر، الانتقال والتنقل، فهناك التنقل المكاني بين المدينة والريف، ومدينة ومدينة أخرى، وهناك رحلة الروح والعقل وتنقل الفكر وحركته من حال الى أخرى..فالرحلة حركةٌ تسري في داخل تفكير كل شخصية من شخصيات الرواية. وكان عدد رحلات الرواية اثنتىعشرة رحلة ، عنونتْ (أحدى عشرة) منها بتسلسلاتها الرقمية، وذكرت الثانية عشرة(الرحلة الأخيرة) لتعطي مدلولاً للقاريء أنها آخر رحلة كي لاينتظر رحلات أخرى في النص يتبع هذا المقطع.
وهي ضمن تقنيات سردها ومنهجها في الكتابة تولدُ الرواية عندها حيثُ يصطدم القاريء بحضور كمٍ هائل من الشخصيات ينفردون به ويضخون له حوارات كبيرة وكثيرة، وكأنه فيبداية الأمر يغيش أجواء غريبة بل يسمع لغات وأصوات غريبة لايفهم ولا يفقه معناها في صفحاتها الأولى، وكأنها تمد خيوطاً كي تجر القاريء نحو التالي من الدهشة، فبعد أن يسترسل بالقراءة تفتحُ الرواية ذراعيها له كي تُعرّفهُ بضيوفهِ الذين عجّوا بالمكان معهُ وبالأحداث التي تتوالى..
ثم تتركُ الروايةُ للقاريء حريّة تسمية الأبطال، فهناك تعددية أسماء للشخصية الواحدة، بل والأماكن غير محددة أو مشخصة، فتترك فسحات للخيال أن يختار المكان الذي ترسمه مخيلته ويعتقدُ أنهُ الأصلح، وكذاك الزمان. فضلاً عن الميزة التي تسودُ كتاباتها وهي أن تولد حكايةٌ من رحم حكاية والرواية مشحونةٌ بلغةٍ شعريةٍ محببةٍ.
وفي هذه الرواية تحديداً انمازت الروائية بأسلوب مختلف عن بقية رواياتها الأخرى. حينما يبدأ القاريء بقراء الرحلة الأولى ثم ينتقل الى الرحلة الثانية، لمتبدأ الرحلة الثانية مباشرةً، أو الثالثة أو الرابعة وهكذا... بل تضعُ ممهدا بصفحتين أو اكثر، ثم تضع نجمةً لنهاية التمهيد، ومن ثم تذكر الرحلة. وهو أسلوب لشد القاريء ولطرد الملل، ولخلق المفاجأة والصدمة.
 
3- المدينة الفاضلة في الرواية:
المدن نتاجُ البشر، تُبنى وتؤسس لحاجاته ومتطلبات حياته، حسب عاداته وتقاليده وثقافته، حيث هناك مدنٌ تؤسسُ لدرء الحروب والنكبات الطبيعية، وهي التي تعاني من عدم الاستقرار وتعاني من فوبيا الموت والدمار، بوجود حروب مستمرة، فتجد تصاميم دورها وشوارع عبارة عن ثكنات ومتاريس، والدهاليز والسراديب.. وهناك منْ يطاردها شبح الفيضانات لقربها من الأنهار ومصادرالمياه أو البراكين، ..أو اية ظاهرة طبيعية أخرى، فتتأقلمُ المدينة شكلاً ومضموناً مع حاجة اهلها.. وهناك مدن مستقرة مطمئنة فتفترش الأرض سعةً، وتجد دورها وشوارعها وحدائقها، ومسارحها أكثر رحابةً وانبساطاً، لاتنكمش من فوبيا محددة أو غير محددة.
ولكل مفكرٍ ومبدعٍ صورةٌ لمدينته التي يريد، هنا وضعتِ الروائية تصميم مدينةٍ جديدةٍ، وضعت فيها كل ما يساعدُ أبطالها لتجاوز الأزمات والتحديات. فقد ذكرت أحدى الشخصيات المهمة في الرواية (سحر) مدينتها التعيسة ، وقد أسمتها: "المدينة العمياء" ليست لأنها أغفلتها ولم تحتضن شبابها، أو أن أحدا من سكانها لم يرها فقط، بل لأنهامدينة النكبات، مدينة الموت، بوفاة والديها وفقدناها لهما في عمر مبكر، ثم عيشها مرحلة الخوف بوجود زوجة والدها، وزوجها الذي كان يعاكسها ويتحين الفرص للإنقضاض على فريسته، ..وكذلك أولاد زوجة أبيها.. والمدينة هي التي تنكرت لهؤلاء المعوقين ونبذتهم فتبرأت منهم ، كما تبرأ مجتمع المدينة وعوائلهم منهم، فجعلوهم بذلكالمنفى، الذي أصبحَ بعد حين فردوسهم .
مدينةُ الذين فقدوا بصيرتهم، ولايرون إلا أنانيتهم المتضخمة، وينفرون من الآخر، مدينةٌ يسودها العنف واللاإنسانية.
ومقابل هذه المدينة التي أنتجتْ تاريخاً مظلماً لحياة "سحر"؛ أبتدعتِ الروائية مكاناً ساحراًجميلاً بمكانهِ وبمجتمعه، في قريةٍ أسمتها: "أبو فرج" –وهي المدينة الفاضلة للروائية- ، والقريةُ مكانٌ يقعُ في ظاهر المدن عادةً، ويكون الحويصلة والرئة للمدينة المختنقة بدخان الحضارة والنفاق.. وتسمية فرج جاء –في المعجم الوسيط- : الفرج: انكشاف الغمّ، وانفرجَ الشيء: إتّسعَ، وانفرجَ الغمّ والكربُ:إنكشفَ.
وتقول الروايةُ في سبب هذه التسمية (ص: 98): ( سمعتهم يقولون أن رجلاً اسمهُ فرج جاء من مكانٍ ناءٍ غلى القرية، وكانت وقتها غير مأهولة بالسكان، شيّدَداراً طينيةً وعاشَ وحيداً يزرعُ النخيل ، حتى تكاثرَ وأصبحَ يملأ المكان، كما شقّنهراً صغيراً للري أخذ اسمه أيضاً، "نهر فرج"...).
وهكذا اختارتِ الروائيةُ مكاناً يكون فرج اًلمجتمع هذه القرية الذين جاء أغلبهم من مدنٍ شتى ولكل واحدٍ وواحدةٍ من شخوص الرواية حكايتهُ وخسائرهُ وأحزانه. وهذا المكان هو جنة الفردوس ، وذلك كما وردَ في (ص:41): (لم أسأل عن الراتب، مغادرتي البيت تعني الدخول الى عوالم الجنة وإن كانت في قرية ومع معوقين.).
 
- مجتمع المدينة الفاضلة:
في قرية "أبو فرج" نسيجٌ مجتمعي مختلفً مؤتلف، مختلف في:طبقاته وثقافته ومهاراته ومهنه، مؤتلفٌ في: روح التعاون والتسامح والعمل المشترك والأماني والهدف الموحّد. مجتمعٌ يحتضنُ:
1- أصحاب الاحتياجات الخاصة وهم الحلقة الرئيسة في هذا المجتمع بل هم أبطال الرواية.
2- ثم هناك مديرة دار رعاية المعاقين، التيهربت من المدينة، لتضع ماتملك من صحةٍ وعمرٍ ومالٍ في خدمة هذا المجتمع الجديد.
3- وكذلك سحر وسلوى وكل العاملين والعاملات في الدار الذين لا يأخذون مبالغ بمستوى ما يقدمون من خدمة، بل أنهم كمن يتبرع بفناء عمره لخدمةِ هذه الشريحة أو الفئة.وكذلك من ضمن هذا المجتمع مجموعة من الأطباء(محمود- سليم- الطبيب النفسي..).
4- مجموعة كبيرة من أهالي القرية الطيبين الذين يساعدون (دار الرعاية) بالعمل في الحديقة أو أعمال النجارة دون مقابل، وهناك منْ هو ميسور يقدم الدعم المادي، ونساء القرية اللائي يعمل أعمالاً يدوية وبمهارات مختلفة مجانا في دعم (دار الرعاية). ثم هناك المختار وضابط مركز الشرطة في القرية ، وهما رمز - الدولة- .
5- مجموعة معلمات الدار ومدرسات الموسيقى والرسم، وزيارة عدد من الفنانين للدار..
كمالم تكتفِ الروائية بوضع خارطةٍ للتعاون والتآلف بين أفراد الدار والقرية الذين يتمتعون بالصحة والسلامة، بل وضعت خريطةً للمعاقين وكيف يوفرون لحياتهم الجديدة سبل العيش الكريم ، بعد التفكير بزواج المعاقين المنغوليين "سالم وحمامة"، فوضعت نظريتها بضرورة ايجاد فرص عمل لهما داخل الدار، عمل"حمامة" في المطبخ، وعمل "سالم" في الحديقة لمساعدة الفلاح.
- التكافل المجتمعي – العمل الخيري التضامني- في المدينة الفاضلة في الرواية:
شكّلت فكرة (السوق الخيري) و(المهرجان الفني)، صورةً راقيةً لفكرة العمل التعاوني، والتكافل المجتمعي، وصور التعاون بين أبناء مجتمع (قرية أبو فرج) لغرض دعم دار الرعاية وتلبية متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة باسلوب حضاري. وذلك من خلال العمل التطوعي وتبرعات أهل القرية، ويكون هذا السوق من أعمالهم اليدوية، واستثمار عمل النساء للإشتغال بعمل السلال والحصران والأطباق ، وصناعة بعض الحلويات وتعليبها، وأعمال التطريز وملاءات الأسرّة،  وبيعها في السوق.. أمّا الرجال، فتبرعَ كلّ منهم حسب مهنته، الخياط والفلاح والمعلم والنجار.. والى جانب هذا السوق، يكون المهرجان الفني،  ويكون ريعه للدار.
 
4- الصوت في الرواية:
يُعدّ الصوتُ بصورة عامةٍ من أهم العناصر التي تتكون منها اللغة، لأنّ اللغةَ –أيةلغة- لاتقومُ إلاّ بهِ، وهي بدونه كالجسدِ بلا روح، فاللغةُ تقومُ على أصدار الأصوات واستقبالها أثناء عملية الكلام. والصوت اللغوي هو الصوتُ الذي يُصدرُهُ جهاز النطق عند الإنسان.
تمتازُ هذه الرواية (الزمن المستحيل) بتعدد الأصوات، وهذه من التقنيات السردية المعتمدة في كتابة الروائية، فتختلف الأصوات في اللهجات والأسلوب والايديولوجيا، وتعتمدُ هذه التعدديةُ أيضا على تعدد المواقف الفكرية وأختلاف الرؤى، والتنوع في استخدام الصيغ والأساليب الذي تديرهُ الروائية في تحريك دفة الصراع الدرامي الداخلي- المنولوج- والخارجي .
ومع التعدد الصوتي في الشخصيات المتعددة في الرواية، نجد هناك تعدد صوتي على مستوى الشخصية الواحدة، فنلاحظ وجود التعددية الصوتية في صوت البطل(أحمد)، وفي أفكار ورؤى (سحر)و (سلوى) و(فضيلة) و (محمود)و...الخ.
ومع هذا التعدد الصوتي، هناك أصوات ظهرت من نوع آخر، أصوات لإعاقة، ومعاقين، لاينطقون كلمات كاملة، بل حروف أو أجزاء الكلمة، وهناك صرخات وهمهمات وهمس، كلها أصوات جعلتمن الرواية متعددة المشارب والأساليب، متعددة البنى، لتبين مدى راكزية الشخصية ، ومدى الاضطراب النفسي والعقلي، ومايؤثره في عدم السيطرة على مخارج الحروف والكلام، بحيث يظل هذا النوع من الأصوات شفرات. ومن هذا النوع الكثير الذي نقرأهُ في الرواية أصوات الطفلة المنغولية (حمامة):
1-  ص55:مصّتْ شفتها السفلى الى الداخل، أمالت حلقها وأغمضت عينيها، ثم فتحتهما مشيرةً الىعيني مرةً ثانيةً وعوتْ ...عووووو...عووو مامة.
- وتعنيفي هذا الصوت: إنها ترجوكِ النوم بقربها...
2- ص 59: تشجعها "سلوى" من مسافة متر.. رافعةً أبهامها كإشارةٍ تشجيعيةٍ ..كلما شاهدتْ "حمامة" ابتسامة"سلوى" عَوَتْ: يّعيّ..يَعّو..وامّمّمْ..نعن..نع.
- وهذا يعني: في تقليد مدرّسة الرياضة.
3- في تعبير (حمامة) عن الفرح والسرور(ص:130): .. حتى كادت تلغق السلسلة بلسانها الطويل الممتد الى حنكها معبرة عن فرح مباغت دخلَ قبلها..همهمتْ إهم..هي..هم..
وهذه نماذج من معوّق آخر أنما هو يختلف عنعوق (حمامة) فعوقهُ بدني فقط هو بطل الرواية (عنقود الأحمدي):
ص80:أضغطُ ابهامي واصبعي الوسطى، ثم أكز على أسناني بحرف السين..أس..أس..أس وأجمع شفتيّ الى بعضهما وأقول: أمم..أمم أمممم.
- وتعني:نطق بعض حروف الموسيقى..
وهناك نوع من الصوت الفعل والصورة الذي يصرخ أو يهمس في لغة الحوار، وأذكر منها:
1- ص 77: كان "سالم" مشدوداً اليها، وكلما اقتربت منه، أو شمّ عطرها ماءَ مثل قطٍ أخرس.
- صوت القط: مواء القط.
2- ص 99: صهلَ الكون في مخيلتي...
- صوت الحصان: الصهيل.
5 - لغة الجسد في الرواية:
للجسد فنٌ ولغةٌ، من خلاله يجسّدُ الفنّان فكرةً وحواراً ، يجسدّهُ بعرضٍ بدني، كما في فن(البونتمايم)، وفن الرّقص، فالجسد لم يكن جسداً تشريحياً فقط، أو عبارة عن محموعة أجهزة تعمل بصورة ديناميكية، بل هو تاريخ فرد، وثقافة وعلاقات ونشاطات..فالجسد هو أساس الحركات التعبيرية المقننة في فعاليات عملية رمزية، فهناك فيه إشارات وحركات وإيماءات، تؤدى وفق تزامنات عضلية باستخدام اليد أو الوجه او الرأس أو الجذع أو الأكتاف، ..وتختلفُ تقنيات الجسد وفق مفاهيم مختلفة منها: 1- الجنس: دكر أوأنثى..2- نوع العمل والمهارة. 3- شكل استخدام الحركة والإيقاع وموضوعهما. كما يشير بعض الباحثين أن نوع تقنيات الجسد تختلفُ باختلاف العمر والطبقة الاجتماعية .
في موضوعة الصوت لاحظنا تعددية الصوت في الرواية، وهنا تعددية اللغة، فمع اللغة المقروءة هناك لغة أخرى بصرية، تراها لاتسمعها، حر كية، تستخدم الجسد وسيلة للنطق والتفاهم. فكما هو الصوت يتطور تصاعديا من زمن الطفولة الى الكهولة، كذلك هي لغة الجسد تتطور وتتصاعد من الطفولة الى الكهولة وفق تقنات تلائم كل مرحلة بزمانها ومكانها.
وهنا سنذكر بعض من الإيماءات والإشارات والحركات بواسطة اليد والأصابع والرأس التي استخدمتها شخصيات الرواية:
 
- لغة اليد:
1- ص: 79: [العنقود]أحركُ أصابعي بشكل الحرف الذي أسمعهُ، أرسمهُ في الهواء، محاولا النطق بهِ قدر المستطاع..أتعثرُ كثيرا في الاحتفاظ به أديرُ لساني حول أصبعي لأقنع نفسي بأنني قادر على الذوبان بين الحروف.
2- ص: 106: مشى سالم خلفها [حمامة] منقاداً الى عطرها ، أنما أذهلتُ [العنقود] الجميع بحركات أصابعي، خاصةً مُدرّسة لغة الاشارات.
- انصتوا جميعاً [قالت سحر] واسمعوا مايقول"أحمد" إنهُ يقولُ شعراً، أنا بأصابعي والمُدرّسة تترجمُ حركاتي اليهم: رسمتُها في قلبي وليس على الورق/ رسمتُ روحي التي بين أضلعها./.
3- ص107: طلبتِالمديرة [مديرة الدار] من المعلمة التي تجيد لغة الإشارة أن تخطّ ما كتبتُهُ [العنقود]في أشاراتي على ورق كارتون وتعلقهُ في صالة الدار.
- هذه المرّة كان ضغط يدي مختلفاً..وصلَ إليها بلغةٍجديدةٍ ملؤها الثقة والبهجة. [العنقود].
4- ص: 128: [العنقود]:وكثيراً ما أحاول ايصال ما يدور في خاطري اليها بواسطة الضغط على يدها..
5- ص:156: [العنقود- سحر]: ..رفعتُ يدي اليمنى وضعتها على صدري موضع القلب.
6- ص:139: [العنقود–الى أحمد] نظرتُ اليه بحزن وقلتُ غاضباً بعدة اشارات من أصابعي حتى اشتبكت مع بعضها كأنها في عراك.
7- ص:140: [العنقود]:وخلال وجودنا يوم أمس واليوم تركتْ [سحر] بصمة كفها الناعمة على يدي فأشعرتني بغبطة لامثيل لها.
8- ص 159: [العنقود]:أصابعي لا تستطيع الامساك بالقلم، ترتعشُ ويسقط منها أرضاً، لذلك أتقن لغة الاشارة وأصبحت سبابتي هي القلمُ والهواء هو الورق.
9- ص 187: [العنقود–الفنان علي]: رفعتُ سبابتي وكتبتُ في الهواء "الجمال الدافيء".
- لغة الرأس:
1- ص:112: تحرّكَ رأسي [العنقود] باتجاهات مختلفة، ايجاباً، وأشرتُ الى قلبي فهمتْ [سحر] أنني أضعها في قلبي..
2- ص: 130: [العنقود]:لم أهتم لكلامها، عضضتُ يدها ولأول مرة أفعلها، وأشرتُ رأسي صوب العنبر...
- ... أشرتُ [العنقود] باشاراتٍ منفعلة مما اضطرها لمناداة المعلمة "مناهل" لتشرح لها انفعالاتي المتلاطمة مع بعضها مثل أمواجبحر هائج.
- لغة الشفاه:
1- ص: 116: استنفدتُ[العنقود]كل لغة الاشارات والايماءات والحركات..فردتُ أصابعي على طولها ، مددتُ شفتي السفلى الى أقصاها والعليا ضممتها بقوة، عضضتُ بسني على السفلى وبكل قوتي حتى أدميتها..لم أصلالى ذلك اللعين ابن الكلب " الصوت الحر".
2- ص: 120: أرى عجزي[العنقود] في التعبير عن أفكاري، فأوصلها اليهم برسوماتي واشاراتي الشعرية، وكتابتي بعض الجمل الراقية كرسالة الى حياة ..
3- ص: 194: [العنقود- سحر]: كل حركاتي تعني لها شيئاً، حين أمط شفتي السفلى وأضغطُ عليها بسني ..وحين أعقدُ حاجبيّ الخفيفين وأفركهما بأصابعي تراقبها جيداً.
4- ص205: [العنقود]:ارادت احدى المذيعات عمل لقاء معي فأشرتُ لها بالرفض وكتبتُ لها على قُصاصةٍ ورقيةٍ(لاأستطيع الكلام).
- لغة العيون:
1- ص: 145: [حمامة–سحر]: ..في الصباح لفتَ قرطها انتباه "حمامة" فأشارتْ إليه راغبةً فيه، وعدتْها بشراء مثله هديةً لها.
2- ص157: .. الودنشعرُ به من خلال لمسة أو نظرة..
المبحث الثاني:
أولاً- صورة البطل في الرواية:
منْ هو البطل؟ فقد تعدّدتْ أسماؤهُ ومسمياتُهُ، بل وتركتِ الروايةُ للقاريء أن يضيف مايحلو لهُ من خلال قراءتهِ وفهمه لشخصية البطل. وهكذا فنحنُ حينما تحدّنا في تعددية الصوت وتعددية اللغة، سنجد هنا تعددية الأسماء للذات الواحدة في صورة البطل. فقد استخدمت الرواية أسماء ومسميات عدّة للبطل، وهذا يعني أنها تفتح المجال للقاريء كي يختار ما يجده مناسباً، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تريد أن توصل إلينا رسالةً أنهذا البطل هو (س) من البشر، أي هو يمثل مجتمعا بكاملهِ، شريحةً وفئةً كبيرةً من أصحاب الإحتياجات الخاصة في العالم أجمع. فإذن هي لم تجعل للنص جسداً محدداً أو هيأةً محدّدةً أو تشخيصاً ، بل هو نصّ مفتوح يحتملُ كل التفسيرات والتحليلات، ليظل النّص يتحدث عن هذه الفئة دون تحديد قومية أو دين أو معتقد، بل وأنها لم تحدّد المكان والزمان كذلك، فإذن هي حالة أممية تعيش وتنمو في أحشاء كل هذا العالم.
- ثنائية الأسم، والصورة:
وضعتِ الروايةُ البطل يعيش في حالة الإزدواج، والتصادم مع الذات من الداخل، فجعلتهُ يضعُ مع ذاتهِ ذاتاً افتراضيةً أخرى، تتنفس معه وتنام وتأكل وتشاركهُيومياته، وقد ولدت في النص أسماء لهذه الثنائية، الذات والظل. من الأسماءوالمسميات للبطل وظله الذي يرافقه في الرواية :
1- العنقود/ أحمد. 2- أنا – الآخر. 3- الواقعي- الإفتراضي. 4- الفكرة- الحقيقة. 5- الظاهر- المجهول. 6- الأصل- الصورة. 7- المتخيّل- الواقع.
- الإفتراضي والحقيقي: الإفتراضي هو الآخر الخيالي أو المتخيّل، الذي يرسمهُ الحقيقي في عالمٍ استيهامي، ويُفترضُ في هذا الإفتراضي أن يكونَ محركاً ومستفزاً للآخر الحقيقي، ليحوّل ماهو خيالي الى حقيقة أو ماهو غير متحقق الى إمكانية التحقيق، فالإفتراضي هو الحقيقي المحتمل الحدوث. وهذا يفسّر الحالة التي يمرّ بها (عنقود) في صراعه مع الإفتراضي(أحمد)، الذي يشاركه سريره وقراءته وعمله بل ومشاعره، ويكون لهُ النّد والمتحدي، لأنهُ الحالة الأفضل التي يسعلل وصول إليها الحقيقي (عنقود).
ثانياً - صفات العنقودي:
1- هو أختصارٌ الطفل ، وهو اختصار لحالة الشباب، يتقوّسُ حول نفسه مثل دلو ممتليء بالطحالب، جرّبَ الموت على دفعات لأزماته النفسية والإنعالية ولظروف إعاقته.(ص:34، 56).
2- ساقاهُ دون أقدام، يداهُ نحيلتان صحيحتا الأصابع، كانها فعلاً حبّات تنضّدت على عموده الفقري، جسدٌ ذاوٍ ، عنقود معاقٌ منذ الولادة، عينان صغيرتان مضمومتان من طرفيهما وجحوظ في بياضهما، سنٌ كبيرةٌ تتوسطُ فمه، لونهُ اسمر بصفرةٍ ، ذو شعرٍ بُنّي أجعد. (ص: 57).
3- شكلهُ مثلَ غولٍ يفترسُ نفسُهُ ، انتفاخُ بطنهِ وكُبرُ حجم رأسهِ قياساً الى جسدهِ النحيل جداً. (ص: 33).
4- العنقودُ سجينُ روحهِ المعذّبةِ بالإعاقة، من أبٍ فاقدٍ كل معنى الأبوّة، وأمٍ لم يرَها ولم يتعرّفْ على نبضات قلبها ساعةَرضاعة.
- صفات (أحمد) الإفتراضي:
في( ص: 196): يتحدث الإفتراضي –أحمد- موجهاً خطابه الى- العنقود: ( ..لقدأصبحتُ عالمكَ منذ الرسم الأول، هل نسيتَ بحلقة عينيك على الورق؟ استدرجتُكَ الىملامحي فلم تستطع، رسمتني على شكلك أنتَوأمليتَ عليّ رغباتك.. الشكلُ المفقودُ فيك وضعتهُ على صورتي وحرّكتها كلّ يومباحثاً عنكَ فيّ....).
- حالة بحثه عن (أحمد) والتحامه بهِ:
- (كدتُ بالكاد أفرح وأنا أتقمصك..../ ..كنتُ أضحكُ في سرّي وأقول هذا الفتى مثلي..) ص:20.
1- كان (العنقود- الحقيقي) يبحثُ عن(أحمد- الإفتراضي)، يبحثُ عن الحياة في الإفتراضي، لعلّ حياة الإفتراضي تساعدُهُ على تخطي أزماته، فكان (العنقود) يدخل عالم الإفتراضي، ويحتشدُ فيه ، يروّضهُ وبالمقابل كان الآخر يروّضُهُ. وحتى أتّخذ (العنقود) من (أحمد) مرآته ليرى صورته الأخرى، الجميلة، بلا ألم أو قبح أو دمع أو نحيب.. (ص: 15- 16).
2- كان (العنقود) يتمنى الخروج من جسدهِ وارتداء جسد (أحمد) الصحيح الكامل والمتكامل، صورتهُ المثالية.لأنّ (أحمد) هو الذي شجّعهُ ليكونَ رسّاماً وكاتباً تفدُ الوفودُ إليه.(ص: 30).
3- التحام (العنقود) و(أحمد)، رغم الإختلاف، لوجود مشتركات مبهمة وحقيقية بينهما، حتى في ألوان الملابس. حتى أن درجة التحام وصلت بهما أن يستسلم (العنقود) الى (أحمد) ويتوحّد معهُ حيثُ أخذ (أحمد) يقرّرحضوره ومغادرته في أي وقت يشاء. (ص:29).
4- ووصلت درجة الإلتحام حتى في السرير، حيثُ يختلي (العنقود) مع (أحمد) في السرير دون لقب، وكان يندسّ معه في فراشه . (ص: 80، 9).
5- كان (أحمد) يشارك (العنقود) في قراءة الرواية. (ص: 103).
- نهاية اللقاء مع الآخر- أو مرحلة الخلاص منالآخر:
1- في (ص: 18): لم يحرّك"أحمد"ساكناً ولم يغويه حديث مقدّم الحفل بل شدّتْهُ يدي الضئيلة بأصابعها النحيلة..جذبْتُهُ ووضعتُ يده على كتاب روايتي (الزمن المستحيل)..كلانا أصبح حائراً.. أينا سيوقّع النسخة الأولى، الفكرةُ أم الحقيقة؟ أحمد أم أنا؟.
- بداية التحدي:
- (ص:19): (حرّكتُ راسي باتجاهين معطّلين رافعاً رقبتي قليلاً مصوّباً بصري نحو "سحر"والجمهور متحدياً"أحمد" الافتراضي. ).
–( ص: 27): (أبعدتُ "أحمد" عنّيقليلاً وببعدهِ صرتُ طفلاً مهيئاً للغناء.).
– ( ص:34): (لا تغضبْ منّي يا"أحمد" ، كلانا لهُ دور وسينتهي..).
– (ص: 179): (كلما كتبتُ عبارة أو اتضحت ملامح "أحمد" في الرسم، كلما وقفَ الآخر فيّ مذهولاً... حانَ الوقت أن نواجه واقعنا.. يالهُ من ازدواجٍ بشخصي..).
– (ص: 87): (مرةً تناديني: رفيقي، وأخرىصديقي، وأخرى عنقود، وماذا بعد وقد أعلنت عرغبتك في قتلي؟؟).
- نهاية التحدّي وانتصار (العنقود) على نفسه ليكون(أحمد) الحقيقي:
– (ص: 182): (لابُدّ من النهاية يارفيقي المشاكس.. نعم صدقتَ لم يعدْ باستطاعتنا المضي بهذه الخدعة الكلامية. كلانا أحمد وكلانا ظاهر ومجهول.).
- (ص: 195) : (نعم فعلاً عزمتُ على أمرالخلاص منك.).
- اختفاء الإفتراضي وتجلي صورة أحمد:
– (ص: 206): ( كان "أحمد" يأخذُركناً قصياً في القاعة... وبالتدريج اختفى...).
- الرجوع الى أحمد الأصل:
- (ص: 207): (رجعتُ الى "أحمد"الأصل وليس الصورة.. أو "أحمد" المتخيّل" من قبلي..).
ثالثاً- ثنائية الإبداع: الرّسم والكتابة؟
لقد شملت الثنائيات أبداع البطل، فلم يقف عند موهبةٍ واحدةٍ بل تجاوزت مواهبه لتكون أثنتين ولم تقف عند واحدة، لماذا..؟ ولماذا أختارت الرسم والكتابة؟
إنّ الروائية تدخلت في كل تفاصيل أبطالها، وعاشت معهم، وحدّدتْ لكل واحدٍ وجهته وهدفه، وكيفية تصاعد تطوره ونموه وفعله الدرامي. فالبطل هو (العنقودي- أحمد)أو سمّهِ ما شئتَ.. شخصية تمثل حالة العوق الكوني، العوق بكل صوره في شتى أنحاء العالم، ولكن حينما حدّدت نوع إعاقته، فهو معاق جسديا، وليس عقلياً، لذلك أختارتلهُ نوعين من الفنون، الرسم والرواية.
لماذا الرّسم: لأنّ الرّسم مرتبط بحواسه، النظر، اللمس، السمع، وبقية أجهزة الجسمالتي تعينه مع الفرشاة واللون، وبهذا تُثبت الروائية أن أجهزتهُ سليمةً وحواسّه سليمة، أمّا الرواية، فهي نتاج عقلي وحسي ، فهو أثبات لسلامته عقلياً، ففي هذين الفنين تخبرنا الروائية أن هذا الإنسان لديهِ مالديكم يا أسوياء الجسد، بل يتحدى بإصراره وصبره ليكونَ ما يريد.
بلهناك رسالةٌ أكبر : ( إعاقة القلب والضمير أشدّ وأخطر من الإعاقةِ العقلية والبدنية..:ص: 172) .
- الرّسم واللون الأسود:
الرّسم عند (العنقود- أحمد)، رسم ذاتي، وهو تعبير عن أنفعال محدّد، أو ردّ فعلٍ يحدثُ، أوانعكاسٌ لحالةٍ نفسيةٍ في وقتٍ معين، لذلك تجد صور (العنقود) تعبير للحظة والساعة، مرةً صورة أو صور لوجه (حمامة) التي أحبها، ومرة أخرى صورة(سحر)، ومرةً أخرى يرسمُأ شكالاً قبيحةً أو أشباح بلا وجوه ولا سمات محددة، غير واضحة المعالم، تُعبر عن حالته النفسية القلقة، ومرةً أخرى يعبّر عن سخريته بالعالم وبوالده فيرسمه بهيئات وأشكال قبيحة ، وهكذا..
أمّا لماذا اللون الأسود؟ الأسود هو تعبير عن الظلام، الحزن، السوداوية، الخوف من القادم، الإنطواء... وكثير من الدلالات التي يعنيها التشكلي باسخدامه لهذا اللون..أما (العنقود) فكان الأسود ظله الذي يتابعه، الآخر الذي يتمنى أن يجده ويلتقيه يوما، كما يعبر عن حالته النفسية وشعوره بالسوداوية بشأن حالته الصحية. وقد كرّر استخدام هذا اللون في لوحاته في أكثر من موقع في الرواية، نذكرُ منها:
1- ص85: .. أما تراهم يقفون كثيراً عنداللوحات رغم أن أغلبها باللون الأسود؟
- هذا يعني حتى الأسود أنتصر واستحوذ على الاعجاب.
2- ص105: ...أشرح لها اللون الأسود وسحره على الورق الأبيض.
3- ص113: ..لاأدري لماذا تتحكم هذه الابتسامة وتستفحل على محاولاتي..هي في اللون الأسود والأبيض فقط..يالعظمة هذين اللونين.
4- ص 117: ..هو عقيم لايستطيع كتابة كلمةواحدة أو يمسك بقلم الفحم يثبت للناس أن السواد له وجود في حياتنا..ووجوده يشكل هيأة نقررها نحن على البياض وتقررها أناملنا.
 5- ص179: ...قبل وصولي مزّقتُ وبكيتُ قرب أوراقي ودفاتري. القلم الأسود ضحك مني واستهزأ كثيرا..البياض على الورق شجعني وأعطى أناملي شحنة ودفق أنفعال فني.
6- ص 188: .. أغضبُ وأصبّ غضبي على الورق أوالقماش ..أو بقلم الفحم على ورقي الأبيض ..أفضّل الرسم باللون الأسود دائماً.
7- ص 196- 197: وجه واحد لأنثى تقف نهاية الرسم، بدون ملامح، مجرد جسد يوحي بانوثة وفم كبير بأسنان طويلة ..على ثوبها رسم حرف"ما" أعوجاً وعدلاً ومقوساً، ومنحنياً ليزين الثوب الأسود كله.
8- ص 206: ..فاجأت- سحر- بصورتها وهي واقفة بجانبي ، رسمتها بالفحم تعبيراً عن اتحاد هذين اللونين...
- ... أبيض الورق وقلم الفحم.الظلام والنور ، كنتُ أنا الظلام وهي النور.
- أمّا الكتابة: فقد سبكَ أحلامهُ وفق قوانين أدبية بشكل رواية، وكتبَ حكاياته المتداخلة ببعضها المعبّأة بالألم (ص:27)، وقد اعتادَ على تدوين كل شيء يمر به ويراه في دفتر ملاحظاته فيكتب كل همسةٍ ولمسة بلغةٍ جميلةٍ واسلوبٍ أخّاذ. ويقول –العنقود- ص :108: (فرحتي باكتشاف الشاعر فيّ، أبعدتْ عني هواجس الغيرة..). ويقول العنقود في مكان آخر ايضاً، ص: 193: (..أجل سأبدأ من اللحظة ليكون لي معرضي الخاص في العاصمة وروايتي وإن كانت هي مذكراتي ستأخذُ حيزاً من اهتمام النقاد.). هكذا وجدنا بأن الرسم والرواية توأمان في ذات (العنقود)، أحدهما يقف مع الآخر لإكتمال صورته، وإحياء توازنه .
ثالثاً - صورة الوالدين في الرواية:
- (( أتّقوا ربّكم وآخشوا يوماً لايجزي والدٌعن ولده.)). –سورة لقمان: 31/ الآية:33.
- ((لا أقسمُ بهذا البلد* وأنتَ حلٌ بهذا البلد* ووالدٍ وما ولد*)) – سورة البلد: 90/الآية: 3.
معظم شخوص الرواية المتجركة داخل النّص، تعاني من أزمات نفسية جرّاء العلاقة مع الوالدين سلباً أو ايجاباً، وما أفرزت تلك العلاقات من نتائج ألقت بظلالها على حاضر وتطلع الشخصية. أن الناس الأسوياء والذين يتمتعون بصحة وسلامة خلقة، كثيرا مانلاحظ وجود مشاكل أسرية ، فكيف بخلقٍ غير سوي، محمّل بعاهة أو إعاقة، كيف ستكون علاقته بأهله بل بمجتمعه، .. هذا ماتكشفهُ لنا الرواية، في طبيعة النسيج المجتمعي، واضعةً علم الإجتماع أمام أسئلةٍكبيرة تجاه هذا الموضوع، ولم تقف الأسئلة عند حدود علم الإجتماع فحسب بل، عندعلماء الطب والقانون والأديان مجتمعةً.
وقضية الوالدين، التي تطرحها الرواية بأسلوب حداثوي غير مكرور، يربط فيعلاقة الشخوص بوالديهم، وسبب مجيئهم الى جنتهم قرية (أبو فرج)، ولكلٍ موقفه من والديه يعيش صراعه ، حلوه ومره، أو سمّه أحياناً. وسنشرع الآن بعرض هذه العلاقة على مستوى شخوص الرواية:
1- علاقة العنقود بوالديه:
علاقة (العنقود) علاقةٌ سلبية ، فيها من الألم والعذابات، فهو يتمنى في لحظة تكوينه، لو أرتدى والده (غفّار) الواقي ساعةَ نزوته (ص:25)، أنهُ ينفرُ من اسم والده ولا يريد أن يذكره لأن والده لا يحتمله ولا يحتمل عاهته أو رؤيته، لذلكلم يذكر اسم أبيه على الرواية بل يكتفي باسمه، فوالدهُ يتجاهله منشغل بملذاته ولياليه، ولا تربطه بولده سوى المبالغ التي يرسلها الى الدار لخدمة ابنه فقط.يستفحلُ الغضب عند (العنقود) على والده الحي الذي لا يسأل عنه بل يتجاهله، ويرى في أحزانه وآلامه أكثر وجعاً من طفلٍ أو انسان فقدَ والديه ويعاني اليتم. أمّا والدتهُ الذي لم يرَ وجهها ولم يتعرف على رائحتها أو ينام على صدرها أسوةً بأطفال العالم، فهي راقصة، حملت به في ليلةٍ حمراء مع والده، ثم أرسلته بعد الولادة مشوهاً الى والده مع السائق في يومه الرابع..(ص:60). فهو لم يحلم حتى بوجهها ولم يتفقد وجهها بين وجوه النساء، لذلك رسَمها ذات يوم (..وأرسم شكل خنزير، ثمل ماذا نكرهُ الخنازير..أقلها هي تحمي صغارها بين أضلعها من البرد ومن أزيز الرياح.. ص:113)؛ ثم يقول عن والدته أيضاَ: (أمّ لم أرها ورسمتها ذات يوم لتكون في المعرض على شكل حمار، ثمّ مزّقتُها فهي لاتستحق حتى الحمار.ص:196).
وفي ص: 141: يقول (العنقود): (أبي وأمي أحقر طغاة العالم ....إنظهرتَ لي أو فكّرتَ يوماً برؤيتي يا أبي، سأخفي وجهي عنكَ.. الموت في وجهكَ لايروقُ لي.. ولا أحبّ رائحةَ المستنقع في مسامِ جلدك...).
2- علاقة (سحر) بوالديها:
لم تكد أن تبلغَ الخامسة من عمرها حتى توفت أمها، فتزوّج أبوها من أمرأةٍ متكبرة تعاملها معاملة أمرأة الأب القاسية ، وخلّفتْ هذه المرأة لأبيها ثلاثة أولاد، فاحتضنهُ القبر (ص:36). فكانت زوجة أبيها تهوى تعذيبها، مصاصة دماء، فتزوجتْ أمرأة أبيها بزوجٍ آخر (العم فاضل) حيثُ أصبحت هدفا لتحرشاته، ويحاول أن يتحين الفرص للإجهاز على ضحيته (سحر)، (ص:38)،  فيظل والدها في ذاكرتها حيث تناجيه : (سابقاً حين يعودُ أبي من عمله المضني في سكة الحديد..يصهره التعب والتحوّل..يخفي تعبه حال دخوله الدار وينشر البهجة في نفوسنا..فتهمسُ في أذني ضحكات أمي وهي تعد الغداء لنا نحن الثلاثة.,... يا لأبي المسكين ..ليته ينهضُ ويرى كيفَ أخذت صورته حيزا في خزانة الحمام مع صورة أمي.. وليته يرى التي خان أمي من أجل نزوة معها ماذا فعلت، وكيف تخرج الكلمات من فوهة فمها الكارثة...ص: 39).
3- علاقة (سلوى) بوالديها:
تخبرنا الرواية ، عن سلوى، أن الأبوين تركاها(أي توفيا) لخالٍ وضعها في ملجأ الأيتام تليبةً لرغبةِ زوجته التي لم ترحب بوجودها في بيتها. (ص: 61).
4- علاقة السيدة (فضيلة- مديرة الدار)بوالديها:
تسلّط الرواية الضوء حول هذه العلاقة، حيث كانت من أسرةٍ فقيرةٍ معدمةٍ مكوّنة من أربعة أخوة توأئم ... فزوجوها لثري في المدينة يكبرها بثلاثين عاماً....الثامنة عشرة سنة الزهو وليست سنة الترمل..لم يسمح لها عرف الأرملة الحلم بجواد أبيض وفارس يمحو زلل زواج غير متكافيء...عادت الى القرية بثروة لابأس بها، ووفاء لأخوتها الذين ماتوا نتيجة الفقر في القرية في قرية ليس فيها أي اهتمام من وزارة الصحة ، أو اية جهة حكومية ، نذرت نفسها ومالها لهذه الدار... الزوج المسن لم يهبها جنينا، لذا عادت لأبويها تحمل بين أضلعها حلما مفقوداً... ص: 61.
رابعاً- قضية زواج المنغوليين:
في الإستهلال عن الحديث حول هذا الموضوع الذي طرحتْهُ الروايةُ بجرأةٍ، ويشكلُ مطالبةً لوضع حلول شرعية ووضعية وطبية لمعالجة هذه القضية الإنسانية. فقد وضعتِ الروايةُ أسئلةً كبيرةً مهمةً: هل هناك حب منغولي؟.. هل يتصرّفُ أصحابا لإحتياجات الخاصة في علاقات الجنسين غريزياً أم عشقاً حقيقياً؟.. هل يمكنُ أن يعشقَ المعاق بدنياً وعقلياً؟؟..
حيثُ تقدّمُ لنا الروايةُ حكايةً أخرى من حكاياها، وهي حكاية(سالم وحمامة) ، ومابينهما من ألفة وحميمية، وعشق، مما دعا والدة سالم الى طلب زواج ابنها المنغولي من (حمامة) المعاقة أيضاً، وما أسهم هذا الطلب في وجود موجات معارضة من قبل منْ في الدار أولاً، وعدم تقبّل هذا الموضوع، ثم بعد ذلك كيف تصاعدت الأحداث والمطالبة والإصرار بالزواج من قبل والدة سالم كي ترى حفيدها قبل وفاتها.. تتطور الأحداث فتقتنع الدار ومنْ فيها بالزواج إلا أن هذا الطلب يصطدمُ بعقبات كبيرة، منها القانون، وقرار المحكمة، والطب أحياناً في رأيها لمتضارب بين القبول والرفض، والرأي الشرعي(الديني)، يرفضُ القاضي المصادقة والإعتراف بالزواج، فتظل هذه القضية مطروحة في الرواية، وتظل سؤالاً قائماً يحتاجُالى جواب؟؟؟..
 
الخاتمة:
رواية (الزمن المستحيل) وضعت أمام القاريء مواضيع وأمور في غاية الأهمية، ووضعت علامات استفهام كبيرة أمام المجتمع الدولي، أمام الدول والحكومات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، وهيئات حقوق الإنسان، قضيايا تتعلق بعلم الإجتماع، وضرورة الإهتمام بأسس التربية الأسرية ، وأحترام الآخر مهما كان نوع مرضه وعاهته وأن ينظر اليه أنسانا قبل كل شيء ، وأن تضعالدساتير والقوانين مواد خاصة بهذه الفئة. كما أن العوق أو الإعاقة لاتشكل خطراًكبيراً على المجتمعات بقدر مرضى الفكر والثقافة المعادية للبشر، وجرائم العصر التيلا
ثم وضعتْ أسسا وأحلاماً من أرض الواقعي مكن تحقيقها لهؤلاء الناس وفق أسلوب التضامن والتكافل المجتمعي لغرض النهوض بهم، فهم مجتمع يعملـ يتذوّق الموسيقى، لديه أبداعات فنية وأدبية، بل وجعلت الرواية ختامها أن يكون (أحمد الأصلي) معلماً فيدار الرعاية ليعلّمَ ابناء مجتمعه ويعمل وفاء لهذه الدار التي أحتضنته بعدمارماه أهله منذ طفولته فيها. فانتصرت إرادة التحدي والعزيمة والإصرار..فقدمت لنا الرواية أنموذجاً أبداعياً شائقاً، ولكن..؟؟ لغرض أكمال رسالة الرواية على المعنيين أن يضع الحلول والإجابات لإسئلة الرواية...
المصادر والمراجع:
*القرآن الكريم.
- بوليفونيا التصميم الضوئي في العرض المسرحي التجريبي، أطروحة دكتوراه:نورس محمد غازي، جامعة بابل- كلية الفنون الجميلة/قسم الفنون المسرحية، أشراف: د.عقيل جعفر مسلم، 1434هـ/ 2013م.
- التداولية في الفكر النقدي، أطروحة دكتوراه: كاظم جاسم منصور العزاوي، جامعة بابل- كلية التربية للعلوم الإسلامية- قسم اللغة العربية، أشراف: د. عباس محمدرضا، 1433هـ/ 2012م.
- معجم السرديات، أشراف: محمد القاضي، دار محمد علي للنشر- تونس، ط1، 2010م.
- معجم الجسد، أشراف: ميشيلا مارزانو، ترجمة: حبيب نصر الله، مجد المؤسسة الجامعية- بيروت، ط1، 1433هـ/ 2012م.
- المعجم الوسيط، مجموعة أساتذة، مؤسسة الأمواج- بيروت، ط3، 1988م.
- موسوعة السرد العربي، د.عبد الله ابراهيم، دار الفارس- الأردن، ط1، 2005م.
 

 

تعليق عبر الفيس بوك