الحكمة العملية


أ.د. أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
أساتاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج

تعد الحكمة أحد أهم دعائم رأس المال الاجتماعي التي يكتسبها الأفراد على مدار حياتهم، وهي تمثل رافداً أساسياً للأجيال القادمة في أي مجتمع. وينطوي تطور الحكمة على جهد فعال ومستمر بين الأفراد والسياق البيئي والثقافي الذي ينشؤون فيه. وقد برزت الحكمة العملية في مقابل الحكمة النظرية المجردة كموضوع يعالج قضايا الحياة الواقعية. تحتوي الحكمة العملية على جوانب عملية وأخلاقية على حد سواء، وهذا لا ينطبق على المعرفة المجردة. وهي لا تقتصر على إثراء حياتنا من خلال منحنا القدرة على التصرف بحكمة فحسب، بل تجعل العالم مكانًا أفضل أيضا.
يقول إيزاك آسيموف في حديث له حول العلم والدين: "من الإهانة أن نفترض أن أي نظام للثواب والعقاب فقط هو الذي يمكن أن يبقيك إنسانًا محترمًا". ومع ذلك، فإن ثقافتنا هي التي تتحول في كثير من الأحيان إلى قواعد خارجية جامدة - سواء كانت تشريعية أو سلوكًا اجتماعيًا – كبديل عن البوصلة الأخلاقية الداخلية التي يجب أن يستخدمها أي "إنسان كريم" لتوجيه سلوكه. إن القواعد الخارجية – رغم أهميتها في مواقف كثيرة - مهما كان مصدرها، لا يمكن أن تنمي فينا الحسي العميق بالخطأ والصواب.
إذن ماذا يمكننا أن نفعل، كمجتمع وكبشر نطمح إلى أن نكون أسوياء، لزرع هذا الإحساس العميق بالصواب والخطأ، بكل غموضه وسياقاته الظرفية؟ هذا بالضبط ما يستكشفه عالم النفس البارز باري شوارتز، مؤلف كتاب "تناقض الاختيار"، وعالم العلوم السياسية كينيث شارب في كتابهما: الحكمة العملية: الطريقة الصحيحة لفعل الشيء الصحيح - استكشاف رائع لكيفية غرس واستعادة المهارات الأخلاقية الأساسية في قلب الصفات الشخصية للإنسان والمجتمع، وكيف يمكن تعزيز الحكمة العملية في حياتنا اليومية، من خلال تشجيع الأفراد على التركيز على نزاهتهم الشخصية بدلاً من الاكتفاء باتباع القواعد الخارجية التي يضعها آخرون.
كان أفلاطون يعتقد أن الحكمة مبادئ نظرية مجردة. واختلف معه في ذلك تلميذه أرسطو، الذي رأى أن الحكمة متاحة للجميع، وأنها ليست شيئاً للجدل النظري، بل للتطبيق العملي، وأنها نوع من البوصلة الأخلاقية التي توجه تفكيرنا وسلوكنا.  
يرى "أري شوارتز وكينيث شارب" أن الحكمة العملية تشبه المهارة التي يحتاجها أي صاحب حرفة للقيام بمهنته، إلا أنها ليست مهارة فنية أو تقنية فحسب، بل مهارة أخلاقية أيضا، مهارة تمكننا من أن نفطن لكيفية معاملة الناس خلال حياتنا الاجتماعية اليومية.  
إذا كان الأمر كذلك، كيف لنا إذن أن نتعلم أن نكون حكماء بطريقة عملية؟ في الحقيقة لا توجد وصفة محددة لفعل ذلك، لكن يمكن تعلم تلك المهارات التي تفضي إلى الحكمة العملية من خلال التجربة، والالتزام بأهداف الممارسة. لذلك فإن الحكمة العملية ترتبط بالخبرة. ولكن مع ذلك ليست كل خبرة ستجعلنا حكماء. فبعض الخبرات تنمي الحكمة العملية؛ والبعض الآخر يقتلها أو يتلفها. وهنا يجب الإشارة إلى الدور المهم للمؤسسات المهنية والتربوية في تنمية الحكمة العملية من خلال الممارسة.
إن المؤسسات التي تربي النشء يجب أن تسعى جاهدة إلى غرس الحكمة، وذلك من خلال التركيز على تطوير سمات مثل المثابرة، اليقظة الذهنية، والشفقة والإحسان. هذه الخصائص - أو كما يسميها أرسطو الفضائل الرئيسية - هي التربة الصالحة لغرس الحكمة العملية. وقد حدد شوارتز وشارب ست مؤشرات للشخص الذي يمارس الحكمة العملية؛ فهو يرى أن الشخص الحكيم:
1.    يعرف الأهداف الصحيحة للنشاط الذي يشارك فيه. إنه يريد أن يفعل الشيء الصحيح لتحقيق هذه الأهداف، كما يريد تلبية احتياجات الناس الذين يخدمهم.
2.    يعرف كيفية الموازنة بين الأهداف المتضاربة وتفسير القواعد والمبادئ في ضوء خصوصيات كل سياق.
3.    يعرف كيف يقرأ السياق الاجتماعي، وكيف يذهب أبعد من مبادئ الخطأ والصواب والأسود والأبيض، ويرى المساحات الرمادية في المواقف المختلفة.
4.    يعرف كيف يأخذ في الاعتبار وجهة نظر الآخر لرؤية الموقف كما يراه الآخرون، وبالتالي فهم كيف يشعر هذا الآخر. هذا المنظور هو الذي يجعل الشخص الحكيم قادرا على الشعور بالتعاطف مع الآخرين، واتخاذ القرارات التي تخدم احتياجات طلابه أو أصدقائه أو من يقدم لهم الخدمة.
5.    يعرف كيف يجعل العاطفة حليفا للعقل، وكيف يعوِّل على العاطفة عندما يستدعي الموقف ذلك، وتقرير الحكم دون تشويهه. يمكن أن يشعر أو يعرف ما الشيء الصواب الذي ينبغي عمله، مما يمكِّنه من التصرف بسرعة عندما يكون التوقيت مهمًا. المشاعر والحدس لديه مدربة تدريبا جيدا.
6.    هو شخص ذو خبرة، فالحكمة العملية هي عملية حرفية، وأهل كل حرفة هم أشخاص مدربون من خلال الخبرات والتجارب الصحيحة. فكما يتعلم الناس كيف يكون كريما وشجاعا من خلال الممارسة. كذلك الأمر، أيضًا، بالنسبة للصدق والعدالة والولاء والرعاية والاستماع والمشورة.
تساعدنا الحكمة العملية على التعامل مع المواقف التي ليست صح وخطأ، أو أسود وأبيض. إن المعلمين الذين يحاولون التدريس والإلهام، أو المحامين الذين يحاولون تقديم المشورة المناسبة وخدمة العدالة، لا يحتارون في الاختيار بين الشيء" الصحيح والشيء الخطأ. إن المآزق الحقيقية التي يواجهونها تتمثل في الاختيار بين الأشياء الصحيحة التي تتصادم، أو بين الحسن والأحسن، أو في بعض الأحيان بين السيئ والأسوأ. هذا النوع من المآزق ليست له إجابة واحدة تناسب الجميع. قد تكون القواعد الجيدة مفيدة كموجهات لنا أثناء التعامل مع المعضلات المختلفة، ولكنها لن تكون مناسبة تماما لأن تطبق في كل الحالات. إن الموازنة بين مثل هذه الأفعال يتطلب الحكمة، والحكمة المجردة هنا لن تجدي نفعاً. بل يجب أن يتحلى الفرد في مثل هذه المواقف بالحكمة عملية.
ويتطلب التصرف بحكمة أن نسترشد بالأهداف المناسبة لنشاط معين. إن هدف التدريس هو تعليم الطلاب، وهدف المحاماة هي السعي لتحقيق العدالة. كل المهن على اختلافها لها أهدافها الخاصة، وأولئك الذين يتفوقون هم أولئك القادرون على تحديد أهدافهم ومتابعة تحقيقها.
من السهل أن ننفعل ونستشيط غضبا ونحاول الفوز بالقوة في بعض المواقف. قد يبدو التنفيس والتصرف باندفاع أمرا متوقعا في لحظة ما، ولكن هذا يجعلنا نتساءل ما إذا كانت النتيجة أو المحصلة التي خصلنا إليها كانت تستحق كل هذا العناء. بالتأكيد لم يقل أحد إن شعور المرء بالغضب في مواقف الحياة صواب أو خطأ، ولكن المهم كيف ندير هذا الغضب. يمكننا أن نختبر الخوف، والثقة، والرغبة، والغضب، والشفقة، وأي نوع من المتعة والألم، بدرجات كبيرة أو قليلة، ولكن المهم أن نجرب كل هذا في الوقت المناسب، نحو الأشياء الصحيحة، وتجاه الأشخاص المناسبين، وللسبب الصحيح، وبالطريقة الصحيحة، وهذا علامة الحكمة.
إن تقدير الموقف، ومعرفة ما هو ملائم في هذه الحالة الخاصة وهذ الظرف الخاص، وتخيل ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به، وإدراك الخيارات، وتخيل النتائج، كل هذه المهارات جزء من بصيرة المرء وحدة إدراكه. هذا التصور هو الذي يمكننا من التعرف على تفرد موقف أو حالة ما، مثل هذا التصور عبارة عن عملية حوار افتراضي بين المبادئ المجردة وخصوصية الحالة، التي يشرح فيها العام الخاص، ويخضعه لمزيد من التمحيص.
إن جوهر الحكمة العملية هو القدرة على التفكير في اختياراتنا، وتمييز أفضل مسار للعمل في سياق مجموعة معينة من الظروف. ومن أجل القيام بذلك، فإننا نعتمد على تأطير الوضع، ووضع قصة جيدة وذات صلة باستخدام التفكير المجازي لفهمه والقدرة على تخيل أفكار ومشاعر الآخرين، لفهم الأبعاد الكاملة للموقف.
إن الحكمة العملية بحاجة إلى أكثر من مهارة ليكون لدى المرء بصيرة وفهما للآخرين. فهي تتطلب القدرة على إدراك المرء لنفسه، لتقييم دوافعه، والاعتراف بفشله، ومعرفة ما ينجح وما لا ينجح ولماذا. التأني، والإدراك، واليقظة الذهنية، والتعاطف، واستخدام المشاعر كحلفاء لنا، والتعلم من تجارب الماضي، والتفكير في طريقة تفكيرنا - هذه الفضائل كلها ضرورية لممارسة الحكمة العملية، للتصرف بحكمة، وأخلاق، ورصانة. إذا كان ازدهار الإنسان هو الهدف الأمثل، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، فإن السؤال لا يتعلق بـ كيف، ولكن بـ متى.
يقول الكاتب الفرنسي مونتين: "لا يكفي مجرد إعادة سرد التجارب، بل يجب تقييمها وفرزها، وأن يتم هضمها وتصفيتها، حتى يمكن أن تسفر عن المنطق والاستنتاجات التي تحتويها".
ويوضح دونالد شون - الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT - أهمية الممارسة التأملية في تطوير الحكمة العملية: يقول دونت شون إن المحترفين الجيدين يقومون دائمًا بتعديل أفعالهم مع السياق الخاص من أجل تحقيق هدف عام. والطريقة التي يتعلمون بها كيفية القيام بذلك هي من خلال تقييم الإجراءات المحددة التي يختارونها (كلماتهم، ونصائحهم، وتأطيرهم)، وإعادة تقييم سريعة لما قالوه أو فعلوه حتى يتمكنوا من تحسينه. هذه الممارسة التأملية - من التجربة والخطأ، إلى إعادة التقييم، ثم التجربة مرة أخرى – تجعلهم يتطورون ويصلون إلى مستويات أفضل وأفضل فيما يفعلونه. إنهم يتعلمون الخبرة الأخلاقية والفنية للقيام بعملهم بشكل جيد.
قد تبدو الحكمة العملية وكأنها أحد الفضائل صعبة المنال والتي يمكن لأفراد قليلين جدا فقط أن يحققوها، ولكن هذا في الحقيقة غير صحيح، ويجب ألا يستخدم ذلك كذريعة لعدم محاولة أن نكون أفضل. سواء كنا معلمين أو أطباء أو كُتَّاب أو فنانين أو علماء، فإننا جميعا يمكننا تطوير الحكمة العملية، بل يجب علينا أن نفعل ذلك.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك