"حارسة الظّلال" لواسيني الأعرج نموذجاً:

أثر البنيات الحكائية الصّغرى في توجيه الخطاب الروائيّ (3 – 5)

...
...
...
...


أ.د/ يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
الموجة الثالثة: حكايات الشخصيات:
في الحديث عن حكايات الشخصيات نتكئ ها هنا على أهم الشخصيات التي حملت الحدث وقدّم السرد حكاياتها، وهي: حنّا، وحسيسن، ودالميريا.
أولاً ـ حنّا: عاشقة الأشواق الأندلسية الضائعة.
تستمدّ حنا ظلال شخصيتها من التراث الشهرزادي، فهي لا تملّ من تكرار مغامرات الجد الموريسكي الذي ترك جنته الأندلسية، وعاش إحساس الفقد وضياع البلاد. غير أن ثمة شهريارين ينتظرانها؛ ليقطعا هذه المرة، جذور الحكاية، لا عنق الساردة، غير أن الذي يشي بالأمل القادم هو كون تلك الحكايات لا تنتهي، ذلك أن شهرياريها لم يشبعا بعد من الولغ في دم الوطن وتراثه المهدّد بالانقراض.
لذلك أحبت حنا (حارسةُ ظلال واسيني الأعرج) حارسةَ ظلال الذاكرة الأسطورية التي تقسم حنّا، في فصل يسرد دالميريا ذكرياته، أنها ما زالت موجودة:
"كانت تقسم برأس أجدادها وكل الأولياء أن حارسة الظلال موجودة إلى اليوم في زاوية ما من زوايا المدينة، تنتظر عودة خويا حمّو. كلما سقطت الأمطار، تخرج رأسها قليلاً تنظر إلى السماء المغلفة بالسحب وتنشد نشيدها الطفولي:
يا النو يا النويوة،
صبّي، صبّي
ما تصبّيش علي
حتى يجي خويا حمّو(7)
ويغطّيني بالزربيّة..." ص156.
وها هنا يسأل المرء عن علاقة حارسة الظلال بالمطر الذي ترجوه أن يهطل بعد أن تتغطّى، ولنا هنا أن نسأل ما الذي تريد أن تغسله؟؟ أتريد أن تغسل الظلال ذاتها، أم ترها تريد أن تغسل قلوب الذين يعبثون بالظلال، لعلّهم عن غيّهم يرجعون؟!
ومن المنطلق ذاته سعت حنّا دائماً إلى تصوير جدّها الموريسكي، وأسبغت عليه سمات البطولة،  وجعلت له ظلالاً عديدة، تستعين بها دائماً، وفي رأس قائمة أجدادها يقف جدّها الموريسكي الذي مات كما يموت الأبطال؛ إذ عضّ "على يده طويلاً ولم يبرأ من جرحه حتى الموت". ص21.
من هنا لجأت حنا، من خلال استذكارات خارجية، إلى سرد الحكايات التي تتعلق بذلك الجد، وعدّلتها، بما تمليه عليها المواقف، وشهوة القصّ، مؤكدة في كلّ مرة، أن ما ترويه عن "أسد الغيم والهجر، الذي لم يكن يحبّ شيئاً مثل حبّه لزهرة الكاسي" ص21. هو حقيقة لا يدخلها الزيف، لذلك احتفظت بعاداته وحكاياته وذكرياته، ورفضت أن تصدّق أن معالمَ كثيرة من ذلك التاريخ قد اندثرت، وأنهكت ذاكرتها في البحث عن ظلاله في الشخصيات الأخرى، حتى إنّها تسأل حسيسن عن ظلال جدّها في شخصية دالميريا الذي جاء للجزائر في زيارة حملت له كثيراً من المتاعب:
"ـ هل له أوشام على الذراع الأيسر؟" ص45
ويدخل معها حسيسن اللعبة السردية ذاتها، لا ليسخر من خَرَف الجدة، بل ليصدّقها، لأنه مثلها واحدٌ من حرّاس الظلال، فهو يكذب لأنّ "أعذب السرد أكذبه" وأقربه إلى قلب حنّا، وإلى قلبه أيضاً، فيشتطّ معها في خيالها قائلاً:
"ـ سبحان الله ما أنفذ بصيرتك يا حنّا، وكأنك ترينه. أرى وردة كاسي سوداء ومفتاحاً صغيراً منقوشاً بإتقان" ص46.
وإمعاناً من حسيسن في استمراء اللعبة ذاتها يحدّثها عن اعتقال دالميريا، فيخترع له من خياله اعتقالاً يليق بذاكرة الجدة التي ترى فيه ظل جدّها الموريسكي:
"آه لو تعرفين يا حنّا ماذا حدث! شجاعته لا توصف. لم يستسلم أبداً، فقد دافع عن نفسه مثل أمير. استطاع أن يجرّد خمسة من أفراد الأمن من أسلحتهم ثم ارجعها لهم وهو يردد: لست مجرماً ولكن فارساً أندلسياً. أنا هنا سمة للأمل وليس للجريمة. أنتم تريدونني، ها أنذا أسلم نفسي برضاي، أرافقكم بدون قيد ولا إهانة". ص108.
أما السجن فهو، في خيال حسيسن الذي نقله إلى ذاكرة حنّا، "قصر كبير، الأرضية مغطاة بالزرابي الفارسية والتلمسانية. الحيطان مغطاة بالأقمشة السمرقندية والبوخارية والأندلسية. باقات زهور كبيرة ومشكّلة بالورود البُليدية المختلفة الألوان، تملأ الزوايا الحميمية للقصر. مدهش ولكنه هو بقي متواضعاً وطيباً. من الصعب وصفه لك وهو جالس على صوفا مغطاة بالحرير منتظراً أن يتشجع أحد الحاضرين ويتجرّأ على محادثته. فجأة، انحنى مدير السجن عند ركبتيه مقدّماً اعتذارات أصدقائه، ثم دعاه ليبقى ضيفاً استثنائياً عليهم لمدة أسبوع". ص108.
وقد حقق الروائي، من خلال هذا النسق السردي الذي يصف الفضاء السجني، هدفاً خفياً، فهو يثير خيال القارئ، ليكوّن صورة تعاكس هذه المكان، لوصف العذابات التي يلقاها السجناء في سجن ليس من هذا الطراز.
ومن خلال صورة دالميريا في غيابه وحضوره تتكشف عذابات حنّا فهي تقول له ذات لقاء: "آه يا ابني، أنت تثير فيّ مدافن عميقة يصعب ردمها" ص52، فيستمرئ دالميريا الكذبة البيضاء، لأنه ـ مثل حسيسن ـ حريص على حراسة الظلال، ولكنه يختلف عنه في أنه يبحث عن ظلال بلاده، لا عن ظلال الجزائر، على الرغم من تداخل أطياف دون كيشوت بينهما. ويمارس لعبة خداع الجدّة وخداع الذات، مؤكّداً أنه لا يملّ قصصها؛ وإذ ذاك تصحّح له مصطلحاته، وتؤسس لرؤيتها التي لا تتنازل عنها:
"ـ ليست مجرد قصص ولكنها روح حية" ص51.
إن دالميريا بالنسبة لحنّا، لا يمثل الحكاية، ولكنه يمثّل ظلّها البعيد، إلى جانب شخصيات أخرى، من مثل سيدي عبد الرحمن الذي لا يدخل الخوف إلى قلوب المعتمدين عليه.
إذن أصدقاء حنا، الذين يغسلون ظلال حكاياتها، ويبعثونها عبر رماد الذاكرة كثيرون، جدها الموريسكي، وحفيدها حسيسن وصديقه دالميريا، وزريد ومايا والجزائر، وواسيني الأعرج، ونحن أيضاً.
ثانياً ـ حسيسن: لا.. لا أبوح
على الرغم مما يبديه الراوي الرئيسي (حسيسن) من الهلع البشري الطبيعي تجاه الحكاية، في ظل وجود شهريارين لا يرحمان، فإنه يبدو مصّراً على فعل الحكي، على الرغم من أنهم قطعوا لسانه، فيردد قول جميل العاشق الأموي:
لا.. لا أبوح بحبّ بثنة إنها          أخذت عليَّ مواثقاً وعهودا
وإذا كان جميل قد باح بسرّ حبيبته، حين أعلن عدم نيته في البوح، فقد باح حسيسن أيضاً بكلّ أسراره، وهو يعلن خوفه، غير نادم أنه وقع بين مطرقة السلطة وسندان التطرّف.
إنّ كل الخوف الذي يبديه حسيسن من سرد حكايته عن أولئك الذين يهملون التراث أو يخططون لهدمه ينتهي بموقف شجاع يُظهره في سرد مبكّر، ملخّصه أنه غير نادم على فضح هؤلاء وأولئك، فيقول: "مسكين أنا، ابن كلّ الأرياح واللاشيء، الذي أقسم بكل صراخ أنه لو يستعيد ثانية اللسان الذي فقده، وذكر اللذة والمتعة المنزوع ذات مساء مغلق، سيقدم بفرح الساموراي على ارتكاب نفس الحماقات [كذا]" ص15-16.
من هنا سنفترض أنّ جميع مظاهر الخوف الذي يبديها حسيسن من السرد، وجميع مظاهر الاعتذار عنه، هي خُدَع تخفي شوقاً للسرد، إنه شوق الذي يتردد، بعد أن يقول، فيتحفنا بالحكاية، ويبدي قلقه المزعوم؛ لذلك نقبل اعتذاره في السياقات الروائية الأخيرة بوصفه إعلان تحدٍّ آخر، لأولئك الذين استباحوا أحلامه وحقوقه في الكلام والتجدّد.
لقد كان حسيسن هدفاً مباحاً ومستباحاً، لأنه يساعد دالميريا وحنا على حراسة الظلال، من خلال مساعدتهما، فهو يساعد دالميريا، ويضيء له طريق المفرغة وطريق التمثال، ليسهما معاً، كل في حراسة ظلال بلاده وأجداده، وهو لا يتوانى عن مساعدة حنا في تخيّل فضاء حكاياتها، إذ يصف لها دالميريا الذي تبحث فيه عن أجدادها الأندلسيين:
"آه يا حنّا لو كنت تشوفيه! من أين أبدأ؟ بنية قوية تحاذي المترين تقريباً ومئة كيلو من العضلات. هيئته مثل هيئة فارس خاض كل حروب جبال البشرات بالأندلس وخرج منتصراً. وجه مشع وعينان مليئتان بالنور والحب، مقرونتان بحاجبين مثل الهلال. قبضة قوية وخفيفة مثل الفولاذ. تنسدل من رأسه ضفيرة طويلة تختلط في النهاية بسبابات لباسه التي تملأ بدلته الأندلسية المذهبة بالحدائق والأنوار وأشجار الجنة. شامة تتوسط خدّه الأيسر بينما الخدّ الأيمن لم يشف بعد من جرح غائر أصيب به، بكل تأكيد، في حرب خاضها لوحده [كذا] ضد أعداء مدينته". ص45.
ولعلّ حسيسن كان يعرف النهاية التي تنتظره، ولعله أقبل على هذه النهاية بفرح الساموراي، إذ دفع ثمن المغامرة طرداً من عمله، وفقداً لعضويين زائدين من جسده (لسانه وذكره) حتى يصير  مواطناً صالحاً!!
وكان لا بد، حتى تصبح حكاية حسيسن بطعم العلقم، من أن يُستفز قبل طرده، عبر ترحيب وزير الثقافة برئيس الجامعة الغبي جداً، وعبر الحوار الإنشائي الذي يجري بينهما مليئاً بالمجاملات والمزايدات.
وبعد هذا الحوار/ الطعنة، وبعد طعنة أخرى تتعلق برفض اقتراحاته جملة وتفصيلاً حول الاختصاصين الذين سيشاركون بندوة غرناطة، يتلقى طعنة أخرى إذ يذهب إلى زكية المتخصصة في نكء الجراح، لتعطيه كتاب الطرد من عمله، بحجة لا يمكن ردها، ولا تجوز مناقشتها:
"نحيطكم علماً بأنه تم طردكم بسبب عدم الكفاءة في تسيير شؤون الاختصاص والمس بأمن الدولة. التوقيع: رئيس مصلحة العمال.
في هذا البلد، جملة واحدة تكفي لاغتيال آت بأكمله مثل رصاصة تمحو كلّ أثر للحياة" ص212.
إنّ الطعنة/ الرصاصة التي ذكرها واسيني لم تكن رصاصة الرحمة، أو الطعنة الأخيرة، لأن حسيسن كان على موعد مع طاعن شبحيّ آخر لا هوية له، إذ تعترضه سيارة، يأخذه ركابها في رحلة جديدة من الألم:
"عرّوني، شمّخوا خرقة رثة بالماء سدّوا بها فمي بإحكام ثمّ تحلّقوا عليّ. لمع سكين أحدهم تحت ضوء القمر الذي لم يعد يعني لي إلا الموت، ثمّ بدأ بحزّ ذكري الضامر من كثرة الخوف (...) كانوا يقهقهون بعد أن نزعوا الخرقة من فمي، أخرجوا لساني، أحكموه بين أسناني وبدؤوا يضغطون بكلّ قواهم على فكّيّ حتى شعرت بقطعة لحم تقطع داخل فمي وبملوحة خاصة" ص214.
"عندما عدتُ إلى وعيي كان العضوان الزائدان قد بُترا نهائياً لأصير مواطناً صالحاً" ص214.
ثالثاً ـ فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا: دون كيشوت الحفيد
حكاية دالميريا، حفيد سرفانتيس، يمكن اختصارها بأربع صوى رئيسية هي:
•    رحلته إلى الجزائر.
•    وصوله ولقائه بحسيسن.
•    بحثه مع حسيسن عن ظلال جده سرفانتيس.
•    اعتقاله ثم إبعاده خارج الجزائر.
لقد كان ذنب دالميريا الأكبر أنّ والده "جعل من المحافظة على ذكرى هذا الشاعر التائه رهانه الحياتي". ص28،  وكان يرى فيه المنقذ لهذا الرهان بالإصرار المستميت على تحويله "بالقوة إلى أكبر كاتب شعبي في القرن" ص28.
وإمعاناً من دالميريا في الإيحاء بتداخل الظلال، فإنه يشير في مذكراته خلال حديثه عن جده سرفانتيس: "هذا الجد المجنون الذي لم يفرّق بينه وبين بطله [دون كيشوت]" ص158...
هذا الجنون، أو لنقل هذا التداخل، انتقل إلى الراوي  الذي لم يميز في كثير من السياقات السردية بين دالميريا ودون كيشوت، بل راح يبحث في صورته عن ذلك البطل الأسطوري:
"لم أكن قادراً على تصّور الشخص الذي كان أمامي غير دونكيشوت دي لامانشا، في حالة يرثى لها، وهو يئن من جراحات حرب خاضها بدون هوادة ضدّ خيبات الدنيا وهو يقص على صانشو دي بانصا، أقرب أصدقائه، مأساته اللامتناهية: يا صانشو العزيز، لقد سمعت الناس يقولون دائماً، أنّ من يكرم اللئيم كمن ينثر ماءً في البحر" ص25.
وها هو ذا دالميريا يعود، مطروداً من الجزائر، إلى بلده، ليكتشف ربما أنه كان يحارب مثل جدّه الأسطوري، طواحين الهواء في معركة اللاجدوى. وإذ نتحدث عن هذا التداخل بين دالميريا ودون كيشوت، فإننا نؤكد أنه خلط مترع بالقصدية، وكأن واسيني الأعرج يريد أن يقيم أخلاطاً أخرى موازية، من خلال تعرض كل من دالميريا وحنا وحسيسن ـ بأشكال مختلفة ـ  للشرب من كأس القمع ذاته، وكأنه يريد أن يقول: إن الحفاظ على التراث الثقافي الإسباني في الجزائر، هو الحفاظ على الجزائر ذاتها. والتراث الإنساني، من خلال هذا الخلط، يبدو كلاً لا يتجزّأ.

 

تعليق عبر الفيس بوك