"حارسة الظّلال" لواسيني الأعرج نموذجاً:

أثر البنيات الحكائية الصّغرى في توجيه الخطاب الروائيّ (2 – 5)

...
...
...
...


أ.د/ يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


الموجة الثانية: حكايات الأمكنة
نفرّق ها هنا بين الحكايات التي تنضوي تحت عناوين الفصول وحكايات عناصر السرد، ذلك لأنّ الروائي يغطي ببراعةِ الداعي إلى لذة الاكتشاف، خيوط الحكايات، ويترك لنا إلماحات عامة، تشي ولا تقول، لذلك كان لا بد من تتبع تلك الحكايات في تضاعيف السرد، لكشف خيوط تداخلها وتضافرها.
للمكان في رواية واسيني الأعرج حكاية أخرى، بل حكايات، ولأن المكان لا يتشكّل إلا من خلال اختراق الأبطال له، كما يقول المنظرون(3)، فقد اخترق أبطال هذه الحكايات أمكنة الرواية من خلال أفعالهم وذكرياتهم وخيباتهم. ويبدو المكان الأول الذي تزدحم به السطور هو الجزائر، بطهرها ودنسها، بأمانها وخوفها، وبكل متناقضاتها العجيبة.
أولاً ـ الجزائر: مدينة لا ذنب لها.
إذا كانت رواية حارسة الظلال هي من زاوية ما (روايةَ شخصيةٍ تجري وراء تطورات حسيسن وخيباته وتجلياته)، فهي من زاوية أخرى رواية مكان: ذلك أنّ رواية الشخصية، وفق ما تشير أدوين موير، تتصف بامتلاء المكان(4)؛ لذلك تبدو الجزائر/ المكان في هذه الرواية أم الحكايات، فهي تتربع على عرش السياقات اللفظية جميعاً، وتحتلّ السياق الافتتاحي مدينةً غريبةً تثير الخيال من خلال تقاطبات الألفاظ، فهي تجمع تمام المعنى واللامعنى، والحرية والقيد، والطهر والتهتّك:
"الـ... جـ... زا... ئـ... ر
الجزائر، مدينة اللامعنى العظيمة، الطائر الحرّ، أيتها المومس المعشوقة"ص13.
إن واسيني الأعرج يسعى من خلال بناء هذه التقاطبات إلى استكمال كون الرواية، ذلك أن الئنائيات الضدية تجعل الكون الروائي يحمل، إضافة للتضاد، معنى التكامل، فـ "بناء الكون يتمثل في مجموعة من الثنائيات التي تبدو متعارضة، ولكنها متكاملةٌ في الوقت نفسه، إذ لا يمكن أن يتم هذا التكامل، إلا من خلال هذا التعارض، والحياةُ مبنية على أساس هذا التكامل(5)".
إذاً، إنّ الجزائر التي تجمع المتناقضات، تمثّل حنين الجزائريين المختزن إليها، وهم يقطنون فيها، فهي بالنسبة لهم جزء من الذاكرة، وإذا كانت حنا التي تعشق أجدادها الأندلسيين تعمل على حراسة ظلالهم، فإنها كذلك تحرس ظلال هذه المدينة الخالدة، وها هي ذي تطلب من حسيسن أن يُسمع دالميريا أغنيةً لعبد المجيد مسكود عن الجزائر، تنتهي بالسياق التالي: "
قولوا لي يا سامعين/ ريحة البهجة وين.."ص 47.
إنها "مرثية قاسية عن خسران مدينة، كل يوم تزحف نحو الموت بخطوات حثيثة" ص47، كما يقول السياق السردي ذاته.
إنّ تناقضات هذه المدينة تنتقل من أهلها إلى زوارها، حتى إن دالميريا يرسم لها صورة رومانسية في عدة سياقات لفظية، فيقول عند وصوله إليها: "اكتشفت بحراً بدون أمواج، بألوان لا متناهية، ومدينة بيضاء مثل الصوف المغسولة بماء عذب بساقية قبائلية كما يقال هنا" ص154.
غير أن المدينة البيضاء، المغسولة بموج البحر تتكشف له ـ من ثمَّ ـ عن خليط عجيب، تمتزج فيه رائحة الأزهار برائحة الجثث المتفسخة، ويلخص حكايتها في السياق التالي:
"كنت أحلم برؤية مدينة، ولكنني رأيت مدينة بكاملها تزحف نحوي بورود الكاسي والنوار وبعطرها وبعاداتها وقصصها ولكن كذلك بخليطها الغامض من الروائح الكريهة التي تشبه رائحة الجثث المتفسّخة". ص142.
إن داميريا الذي يكشف التناقضات يكشف سرّها أيضاً، ويبرّئ طهر المدينة وقداستها من الرجس والعنف والحقد والخراب، فيقول في حديث مع مايا:
"المدن لا ذنب لها. فهي دائماً ملتقى الألوان اللامحدودة والجمال الأخاذ. الناس هم الذين يخربون كل شيء بحقدهم ومصالحهم الصغيرة ويحولون الحدائق إلى مقابر" ص191.
ثانياً ـ المكان الخاص:
ثمة في الجزائر أرصفة وشوارع، وثمة بحر وليل ونهار، وثمة مشاهد كثيرة رصدتها عيون حسيسن ودالميريا، غير أن المكانين الأكثر بروزاً كانا قصر الثقافة ومفرغة وادي السمّار (وغيرها من المزابل) بما يحملانه من تناقض صارخ: قصر الثقافة غني بشكله الخارجي، فقير بما يحمل من ظلال المعنى، ومفرغة تحمل كلّ المعاني التي يبحث عنها الطامحون إلى الثقافة.
القصر إذاً مزدحم بالأشياء، كما نرى في السياق التالي:
"كلفت لخضر مهمة التجول به داخل القصر، هناك أشياء كثيرة وجميلة تستحق أن يتوقف المرء عندها داخل هذا الدهليز الأندلسي الموشى بساحة واسعة وممرات متقاطعة تقود نحو فضاءات الفراغ الذي يشبه العدم وأقواسه المنحوتة بصفاء استثنائي بلونها الآجوري وشبكات الزليج المخطوطة بأبجديات كوفية مرسومة بدقة، تتسلق الحيطان باستقامة وانتظام نادرين، تنكسر عليها الأنوار القادمة من شمس تملأ الساحة طوال النهار قبل أن تنسحب في المساء. النافورة التي تحتل الساحة بمائها الذي لا يظهر إلا عندما يكون الوزير موجوداً" ص37.
تحتل الأشياء الموصوفة ها هنا أهمية بالغةً، إذ تناط بها وظيفة الكشف عن الوضع النفسي للشخصيات التي تتعامل معها، وعن الوضع الاجتماعي والثقافي الذي تجري الرواية فيه. والأشياء التي تؤثث الفضاء الجغرافي تصبح جديرة بالملاحظة منذ أن "لوحظت ودونت" وأقيمت بينها صلات وثيقة(6)، لأن الملاحظة والتدوين مرتبطان حتماً، بذات الكاتب التخيلية، ومعبران عن رؤية يشكل فيها الشيء الموصوف أُساً لا غنىً عنه.
وإن الأشياء الفخمة في هذا الوصف لا تعطي القصر فرادته الثقافية المفترضة، إذ إن كل ما يحيل على الثقافة من الموصوفات يذهب بضربة واحدة، من خلال جملة يذكرها الراوي في نهاية السياق، جملة لم تأت لتعزز قيمة الثقافة في قصر الثقافة، بل لتفعل نقيض ذلك، إذ إن نافورة الماء لا تعمل إلا بوجود الوزير نفسه.
هذا القصر الذي تجد فيه كل شيء إلا الحياة، يقوم في مقابل المفرغة التي تشكّل حياة أخرى غنية لا يعرفها إلا من يهتك سترها، فالمفرغة في فصل (خراب الأمكنة) مكان سوق مفتوح للتبادل الحرّ، وثمة "باصات وآليات تابعة لقطاع الدولة وورشات العمل، يقال أنها لم تعد صالحة وأن أحد الخواص المجهولين يشتريها بأسعار رمزية  ويعيد تصليحها هنا قبل أن يبيعها من جديد إلى الدولة بأسعار الآليات الجديدة". ص60
والمفرغة في وادي السمّار مصدر رزق للبحّاثين الفقراء، من الشباب والأطفال الذين يفضّلون الربو على الجوع والقهر، فينتفضون دفاعاً عن مفرغتهم، عندما تحاول السلطات إبعادها عن مكان تجمّع الناس.
غير أنّ البحاثة الذين يبحثون في المزبلة عن كل ما يمكن أن يباع، يتعرّضون من قبل تجّار الوساطة للاستغلال أيضاً، إذ لا يعرف البحّاث قيمة ما يجده، في مزبلة غنية بالآثار، فيبيعه للوسيط الذي يعرضه في سوقه للراغبين من عشاق الآثار.
إن حكاية الأمكنة ها هنا (الجزائر وقصر ثقافتها ومزابلها ومشابهاتها) هي حكاية الرواية برمّتها؛ إذ إن الجزائر حملت دالميريا في سفينة إليها، ليتجوّل في مفرغتها، ليعتقل من ثمّ ويطرد خارجها، مثلما طُرد حسيسن من قصر الثقافة، بسبب التجوال نفسه، ليلقى مصيره المرعب، عل يد أعدائه المتعددين، ويحوز من ثمّ على المواطَنة الصالحة (!!): بلا لسان وبلا ذَكَر. وليغدوَ عاشقاً للآلة الكاتبة، لسان حاله الجديد: "هذه الآلة الكاتبة هي رفيقي الأوحد.. معشوقتي الاستثنائية" ص14

 

تعليق عبر الفيس بوك