"صفقة القرن" أمام "شعب الجبارين"

 

عبد الله العليان

عندما نقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس المحتلة، توقع الكثيرون أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل، ترتبان سويا لفرض هذا الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، وعلى الدول العربية، لكون الوضع العربي الآن في أسوأ حالاته السياسية والاقتصادية، إلى جانب أنّ التوترات والصراعات في بعض بلدانه ما زالت قائمة.

وبهذه الفرضية، تعتقد إسرائيل أنّ فرض الحل من خلالها أصبح مناسباً، وأنّ هذه التوقيت هو من أنسب التوقيتات التي يمكن تمرير صفقة القرن التي بموجبها تعتبر مدينة القدس العربية التاريخية التي احتلت عام 1967، ضمن أراضي إسرائيل الموحدة التي لا تدخل ضمن حدود السلطة، أو الدولة التي ستكون بلا شك ستكون ناقصة السيادة، وقد تضاف بعض الأراضي الأخرى، ضمن المخططات التي تجعل المستوطنات تقّطع أوصال الكثير من الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948، التي تعتبرها ضمن الحدود الإسرائيلية التي لا نقاش حولها، ولاشك أنّ الهجمات الإسرائيلية على غزة والضربات التي وجهت حتى للمتظاهرين على أطراف مدينة غزة، لكي لا يسأل أحد أنّ صفقة القرن مدار نقاش أو حوار، لكونها قضيّة أمر واقع لا يجب الخروج والتعبير حتى بالتظاهر، وإسكات الأصوات التي قد تشجع السلطة الفلسطينية على عدم الموافقة على هذه الصفقة، التي كما يقال إنّ لها بعض المناصرين في الدول، مع أي تسوية قادمة تحت الضغوط، أو بدونها لن تجد لها القبول عند كل الشعب الفلسطيني، وكل التيّارات السياسية مع اتجاهاتها المختلفة على بعض الأفكار الإيديولوجية التي هي ضمن الاختلاف الطبيعي.

والهجوم على غزة، ومحاولة شن حرب كحرب العصابات على المقاومين، بالقتل والهدم وتحطيم المؤسسات الإعلامية، هي كجزء من حرب مرتبة للتمهيد لكسر الإرادة الفلسطينية التي تطرح قضية الرفض لصفقة القرن، التي لن تجد لها القبول، في غياب الحل الناقص أو الحلول التي تجعل فرض الأمر الواقع قضيّة لا يجب النظر إليها- كما تريد إسرائيل وبتأييد الولايات المتحدة- كقضيّة قرارات دولية، تقرر عودة الحقوق لأصحابها، أو العقل والمنطق يقرران، أو العدل والإنصاف يقضيان أنّ هذه الأراضي كانت حقوقا لآخرين منذ آلاف السنين.. لا.. فعندهم أنّ منطق القوة يرتب حقوقا أخرى، وهو أنّ الحق هو القوة، وأنّ إسرائيل بقوتها وبدعم من أصدقائها استطاعت أن تستولي على الأراضي العربية، بالقوة المسلحة، وهذا يعني أنّ القوة بذاتها تقرر من هو الأجدر بهذه الحقوق!

والحقيقة أنّ هذا المنطق في غاية الغرابة، مع سكوت ما يسمى المجتمع الدولي الذي جعل الأمم المتحدة تضع في قراراتها عامي 1948 و1967 بعودة الأراضي العربية والفلسطينية التي تمّ احتلالها، ثم يتم دعم هذا الاحتلال، وتسليحه لإبقاء احتلاله قائما، لسبعين عامًا مضت، دون أن تتخذ موقفا إنسانياّ عادلاً لحق هذا الشعب الذي سلبت أرضه، والأغرب أيضاً أنّ إسرائيل بدأت بالتحرك مؤخراً لتنفيذ مشروع (الشرق الأوسط الجديد) وبدايته ما يقال عن مشروع القطار كمشروع اقتصادي، وهو المشروع الذي صاغه شيمون بيريز، وطرحه في كتاب بهذا الاسم عام 1995، ثم (مشروع الشرق الأوسط الكبير) 2006، الذي تبنته كوندوليزا رايس وزير خارجية الولايات المتحدة في إدارة جورج بوش الابن، وقبل ذلك مخططات المستشرق الصهيوني برنارد لويس، الذي وضع خرائط جديدة للشرق الأوسط، للتهميد لواقع جديد يقبل بإسرائيل وباحتلالها، والأغرب أنّ هذه المشاريع تأتي في ظل ظروف عربية صعبة وضاغطة.

فمخطط برنارد لويس طرح بعد نكسة عام 1967، ومشروع شيمون بيريز جاء بعد احتلال الكويت 1990، ومشروع كوندا ليزا رايس، جاء بعد احتلال العراق عام 2003، فكل هذه المشاريع والخطط تتحرك، عندما تصاب الأمة بضربات أو طعنات، أو أزمات داخلية، لكن الإشكالية أنّ هذه المشاريع ليس لها قبول شعبي عام، لأنّها تخالف المبادئ والحقوق العادلة، وهم أيضًا يدركون هذه المصاعب، يقيسون النبض، ولذلك عندما تأتي أزمة أو مشكلة داخلية في الأمّة، يطرحون هذه المشاريع عبر الإعلام، ويحاولون تزيين إيجابيّاتها، لعل وعسى أن تجد قبولاً، وإذا وجدوا الرفض، تراجعوا قليلاً، ثم يعاودون مرة أخرى عندما تطرأ مشكلة للأمة جديدة. لكن صفقة القرن وملحقاته في الشرق الأوسط الجديد، يعتبرونها الفرصة التي لا فرصة مثلها، ويجدونها متحققة لتمرير الصفقة إيّاها، واعتقد أنّ اسم "صفقة القرن"، مُشتق من فرصة القرن الحالي، التي تعتبر أكبر الفرص التي يمكن تحققها إسرائيل في حياتها بعد حرب 1948؛ حيث الأوضاع في الأمّة متردية إلى أبعد الحدود، وهذه الصفقة لا يتم عرضها عندهم، ولا مناقشة خياراتها بالقبول أو الرفض، فهي عندهم تفرض فرضا شاء من شاء وأبى من أبى، ولذلك فإنّ الهجمات على غزة منذ أسابيع حتى الآن هي إسكات لأصوات الرفض الأعلى في الشعب الفلسطيني، لكن هل تنجح صفقات الفرض والإرغام؟

التاريخ.. وهو المرجع في الاستقراء والرجوع إليه للبحث في حوادثه وتقلباته، يقول إنّ الفرض والإرغام بالقوة العسكريّة والحرب النفسيّة وغيرها لم تحقق نجاحاً أبداً مهما كان الوضع المتردي، وغرور القوة لن ينجح عادة في فرض الأمر الواقع على حقوق شعوب عبر قرون، وأن البطش والقهر لا يحقق استقراراً مهما كانت الظروف التي يراها الغاصبون مواتية وممهدة؛ فهي كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء.

فصفقة القرن ستطرح بالفعل من إسرائيل، أو هي في طريقها للتطبيق، بالجبروت والصلف تارة، وبالقوة العسكرية تارة أخرى، لكن هل هي قادرة على فرضها وقبولها من "شعب الجبارين"؟! هذا هو السؤال الذي لن تتأخر إجابته كثيراً.